الحوار، صحيفة يومية– الجزائر، الاثنين 29 يناير 2018م، 11 جمادى الأولى 1439هـ، السنة الحادية عشرة، العدد 3308


سؤال التراث والحداثة بالسعودية في حوار مع المفكر زكي الميلاد


– الجزء الثاني –




  • أجرى الحوار: عدة فلاحي/ باحث في الإسلاميات من الجزائر

 




  • المشكل الذي نعاني منه هو أن كل أمة تنعل أختها، وكل نخبة تنعل أختها، وتحملها مسؤولية جمود وتخلف الأمة الإسلامية، فمن وجهة نظركم ما هي العراقيل والمعوقات التي تقف أمام الأمة الإسلامية للدخول في عصر الحداثة؟

لا بد من إدراك عمق هذه الإشكالية وفهم طبيعة تعقيداتها، وكيف أنها إشكالية تاريخية وحضارية، يتوقف على أساسها مستقبل ومصير الفكر الإسلامي والأمة الإسلامية، وبهذا المستوى من الفهم والإدراك، ينبغي أن ننظر ونتعامل مع هذه الإشكالية.


وعند النظر في هذه الإشكالية، نجد أنها تتفرع إلى محنتين، محنة مع التراث، ومحنة مع العصر.


المحنة مع التراث، تتحدد في كون أن الفكر الإسلامي مع أنه بقي وما زال مسكونا بهاجس التراث، إلى درجة أنه يعد من أكثر المنظومات الفكرية اشتغالا به على مستوى الثقافات الإنسانية في العالم، مع ذلك لم يتمكن الفكر الإسلامي من هضم هذا التراث واستيعابه، ولا حتى تمثله، بل يمكن القول إن التراث بوصفه منتجا فكريا ما زال متفوقا ومتقدما على ما ينتجه المفكرون المسلمون المعاصرون.


وهذه هي المحنة الحقيقية التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، الذي ما زال يفتش عن ابن سينا في عصره ولم يجده، وعن ابن رشد في عصره ولم يجده، وعن ابن خلدون في عصره، وعن الخوارزمي وابن الهيثم وابن النفيس والبيروني وغيرهم، ولم يجد أحدا منهم في عصره.


ولهذا فإن هناك من يبحث عن العصر الثاني لابن سينا، والعصر الثاني لابن رشد، والعصر الثاني لابن خلدون، وهو العصر الذي لم يتمكن الفكر الإسلامي المعاصر من إبداعه أو تمثله أو الوصول إليه.


وما لم يتقدم الفكر الإسلامي على التراث، من ناحية الإسهام النظري والمعرفي، فإن إشكالية التراث ستظل قائمة، وقيمتها أن تذكر الفكر الإسلامي بالحاجة إلى التقدم والتفوق، ومن دون هذا التقدم على التراث، ستظل مهمة التجديد متعثرة.


وأما المحنة مع العصر، فهي أكثر شدة وفداحة، وذلك نتيجة المسافات البعيدة التي باتت تفصلنا عن العصر، ونتيجة التطور السريع، والتراكم المذهل في المعرفة الإنسانية.


ومع كل هذا التطور والتقدم، ما زالت إمكانية النفاذ إلى العصر مفتوحة ومتاحة لجميع المنظومات الثقافية، بما فيها المنظومة الثقافية الإسلامية، لكنها ليست إمكانية سهلة ويسيرة، لأن النفاذ إلى العصر، بحاجة إلى الارتقاء بمستوى العصر وشروطه التاريخية والحضارية، على طريقة ما حققته اليابان في مسيرتها الحضارية، حتى وصلت إلى وضع أصبحت فيه جزء من العصر، وفرضت مستوى من الوجود والحضور، جعل منها شريكا فاعلا ومؤثرا في مسيرة التقدم الإنساني، بشكل لا يستطيع أحد مهما أوتي من قوة ونفوذ، أن يغيبها، أو لا يتفاعل معها.


ومن جانب آخر، فإن محنة التراث لا تنفصل عن محنة العصر، فلولا محنة العصر لما التفتنا إلى عمق وشدة محنة التراث، المحنة التي تتسع وتزداد كلما اقتربنا من العصر وعلومه ومعارفه، وكلما نضجت وتطورت رؤيتنا في النظر إلى العصر، ومستويات التقدم التي وصل إليها.


لهذا فلا يمكن أن نواجه علوم العصر بعلوم التراث، كما لا يمكن أن نواجه علوم العصر بالتخلي عن علوم التراث، وهذا ما يريد أن يدفعنا إليه البعض، على خلفية أن من دون التخلي عن علوم التراث لن نقترب من علوم العصر، وهذا هو الوهم بعينه، فليست هناك أمة حية تقطع صلتها بذاكرتها، وتفصل نفسها عن تراثها، وتمحي علاقتها بتاريخها.


وهذا لا يعني كذلك، أننا نقدم علوم التراث على علوم العصر، ونعطي أفضلية علوم التراث على علوم العصر، فهذا لا يحقق تقدما، ولا يبني مدنية، فالسعي لا بد أن يكون باتجاه تقديم علوم العصر على علوم التراث، باعتبار أن علوم التراث هي علوم أمة قد خلت، لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولن نسأل عن علومها، وإنما نسأل عن علومنا، وعلومنا هي علوم عصرنا.




  • لقد تعددت الطروحات والمشاريع الفكرية والفلسفية بخصوص سؤال التراث والحداثة، فأمام الأطروحات المتداولة هل لديكم أطروحة فكرية خاصة بكم في هذا الشأن؟

من الأطروحات الفكرية التي اتبناها في هذا الشأن، الأطروحة التي ترى أن الاجتهاد في المجال الإسلامي هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك لكون أن الحداثة تتكون من ثلاثة عناصر أساسية وجوهرية وثابتة هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي العناصر المكونة لمفهوم الاجتهاد.


من هنا جاءت هذه المقاربة بين الحداثة والاجتهاد، بمعنى أنها مقاربة لها أساس ولها موضوع فكري ومعرفي وليست من نمط المقاربات المفتعلة.


وتعد هذه المقاربة من المقاربات الفكرية والمعرفية الجادة والمهمة، وأظن أنها تتسم بقدر من الإثارة والدهشة ولا تخلو من طرافة، وتتسم بحس الابتكار.


وعلى ما أعلم فإن هذه المقاربة هي من المقاربات الجديدة التي لم تطرق عربيا في حقل الدراسات الفكرية والنقدية، ويصدق عليها من هذه الجهة أنها من المقاربات اللامفكر فيها، لذا فهي بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر المنهجي والمعرفي، وإلى مزيد من التذاكر والتفاكر بين المشتغلين في البحث الفكري والمعرفي.


ولعل ما يعترضنا في هذه المقاربة، هو أننا أمام مفهوم يكاد يكون منطفئا هو مفهوم الاجتهاد، أو هكذا يبدو، فهو المفهوم الذي أعلن إغلاق بابه منذ وقت مبكر في سيرة المدرسة الإسلامية السنية، في مقابل مفهوم متقد وحيوي وفعال هو مفهوم الحداثة.


كما أننا أمام مفهوم ينتمي إلى حضارة مغلوبة هي الحضارة الإسلامية، في مقابل مفهوم ينتمي إلى حضارة غالبة هي الحضارة الغربية.


لهذا من الصعب علينا، في مثل حالتنا الفكرية والحضارية الراهنة تخيل هذه المقاربة، وإعمال الخيال فيها، وجعلها في دائرة البحث والنظر، ولعل من الصعب علينا كذلك لفت انتباه الآخرين من خارج مجالنا الفكري والحضاري إلى مثل هذه المقاربة، وتقريبها إلى دائرة البحث والنظر عندهم، وفي ساحتهم الفكرية والمعرفية.


وما يعترضنا في هذه الشأن، أن هذه العناصر الثلاثة (العقل والعلم والزمن) هي عناصر واضحة ومتجلية ومنكشفة في مفهوم الحداثة، لكنها في مفهوم الاجتهاد ليست بذلك الوضوح والتجلي والانكشاف، والأمر يتوقف على إعادة الاعتبار لمفهوم الاجتهاد ومحاولة اكتشافه من جديد.


والحكمة من هذا الطرح إنما هو لتأكيد أن بناء الحداثة لا يتحقق إلا من خلال تأسيس داخلي، وليس عن طريق جلب خارجي، وبإمكاننا أن نكتشف حداثتنا المستقلة عن طريق مفهوم الاجتهاد، مع شرط التواصل المعرفي والنقدي مع الحداثة في أفقها الإنساني العام، وليس على أساس الانقطاع عنها.


 

زر الذهاب إلى الأعلى