الحياة، لندن، صحيفة يومية، الثلاثاء 21 رجب 1438هـ / 18 أبريل 2017م، العدد 19737

 


أجرت الحوار: نداء آل سيف – القطيف


أكد المفكر السعودي زكي الميلاد أن الغلبة في المشهد العام تتحدد بصورة رئيسة في اتجاهين هما: الأدب بفنونه وأجناسه من الشعر والقصة والرواية والنقد، والدين بعلومه ومعارفه من العقيدة والكلام والحديث والفقه، واستشهد الميلاد بمناشط الأندية الأدبية في المملكة على مستوى المحاضرات والأمسيات والمنابر والندوات والملتقيات التي يحضر فيها الأدب بفنونه ويتسيد، وقال الميلاد في حوار مع “الحياة” إن الفكر في تراجع، ويكاد يكون غائبا ومنسيا، ولفت إلى وجود مفكرين لهم مشاريعهم الفكرية، وابتكاراتهم على مستوى الأفكار والنظريات، لكن كما يقول لم يتم التعرف عليهم بالقدر الكافي.. إلى نص الحوار:




  • كتاب “عصر النهضة” الذي فاز بجائزة وزارة الثقافة والإعلام فرع الفكر والفلسفة، إلى أي حد يلامس قضايا راهنة؟

عصر النهضة من جهة، يمثل عصرا يعد من أجود عصورنا الحديثة خطابا وأدبا، فهو العصر الوحيد في المجال العربي الحديث الذي اكتسب ألمع الأوصاف، ونعني بها أوصاف النهضة واليقظة والإصلاح والتجديد والتنوير، وهي العناوين الكبرى التي ما زلنا نبحث عنها، ونفكر فيها، وباتت تمثل همنا الأكبر وشغلنا الشاغل.


ومن جهة أخرى، فإن عصر النهضة يمثل عصرا جامعا لنا، وفيه تبلورت ونضجت فكرة الأمة الجامعة، وظهرت فيه وازدهرت فكرة الجامعة الإسلامية، ونحن اليوم في حاجة ماسة لاستلهام هذه الروح الجامعة في ظل ما نشهده من انقسامات حادة، ونزاعات متنقلة، وطائفيات مستعرة، وفي ظل ما نراه من أوطان تتفكك، ومجتمعات تتقسم، ودول تعمها الفوضى.


 لهذا فنحن في حاجة إلى فتح الحديث عن هذا العصر، وتذكره، وضرورة الاقتراب منه، وتوثيق العلاقة معه، وتجديد الارتباط به، وإثارة الجدل والنقاش حوله، ليكون عصرا حاضرا في الذاكرة، وبعيدا عن الخفاء والنسيان، فهو العصر الذي كاد يغير وجهة المنطقة العربية ويضعها على طريق النهوض والتقدم.




  • كيف يمكن أن نفيد من إخفاقات عصر النهضة في تعميق الحلول لمشكلات الحاضر؟

لا بد من إدراك أن عصر النهضة نجح في أوروبا لأنه بقي متصلا ومستمرا ومتجددا ولم يتعثر أو ينقطع ويتوقف، وأخفق عندنا لأنه تعثر وتوقف ولم يتصل ويستمر ويتجدد.


من جانب آخر، بسبب إخفاق عصر النهضة دخلت المنطقة العربية والإسلامية مرحلة الاستعمار الأوروبي البغيض، وبسببه تجزأت هذه المنطقة وتفككت، وتغيرت صورة الجغرافيا العربية والإسلامية وتبدلت، وهي الوضعيات التي ورثنا منها الكثير من المشكلات الراهنة، التي لها علاقة بمشكلات الحدود والسيادة والثروة وغيرها.


والفائدة الكبرى التي ينبغي أن نتعلمها ونعمل على فحصها والنظر فيها، تتحدد في ضرورة أن يتصل الإصلاح الديني مع الإصلاح السياسي، وأن نستعيد من جديد فكرة التقدم ونجعل منها فكرة مركزية متوهجة، سعيا وتطلعا للتقدم والنهوض من جديد.




  • تقول إن الاجتهاد هو المفهوم الإسلامي الذي بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في الفكر الغربي هذه رؤية جديدة، كيف يمكن اقتراح رؤى جديدة من دون إثارة تحفظ واسع؟

هذه الرؤية اشتغلت عليها كثيرا فحصا وتأملا، وعملت على بلورتها بناء وتكوينا، وبقيت متابعا لها تجديدا وتحديثا، وسعيت لاثارة الحديث عنها شفاهة وكتابة،  فقد وجدت أن الحداثة تتكون من ثلاثة عناصر أساسية وجوهرية وثابتة هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي العناصر المكونة لمفهوم الاجتهاد.


 الأمر الذي يعني أن هذه الرؤية تستند إلى أساس فكري ومعرفي وليست من نمط المقاربات المفتعلة، وتعد من المقاربات الفكرية والمعرفية الجادة والمهمة، وأظن أنها تتسم بقدر من الإثارة والدهشة وحس الابتكار، ولا تخلو من طرافة.


وعلى ما أعلم فإن هذه المقاربة هي من المقاربات الجديدة التي لم تطرق عربيا في حقل الدراسات الفكرية والنقدية، ويصدق عليها من هذه الجهة أنها من المقاربات اللامفكر فيها، لذا فهي بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر المنهجي والمعرفي، وإلى مزيد من التذاكر والتفاكر بين المشتغلين في البحث الفكري والمعرفي.




  • لكن الاجتهاد يمارس في أطر ضيقة جدا وأنه محاط بالمحاذير التي يطلق عليها الشروط والضوابط، في حين أن الحداثة في الغرب لها وضعية مختلفة تماما وتمارس بشكل واسع وكل شيء مهيأ لها ما رأيك؟

كنت قد فرقت بين الاجتهاد بالمعنى الخاص الذي مجاله الفقه والحقل الفقهي، وهذا الذي يصدق عليه التقيد بنمط من الشروط والضوابط الصارمة، ويتحدد بأطر ضيقة، وبين الاجتهاد بالمعنى العام الذي مجاله عموم الفكر والمعرفة، فالاجتهاد يمثل أحد أهم المفاهيم الذي ابتكرته الثقافة الإسلامية، وانفردت به الحضارة الإسلامية، فقد نشأ وتطور في الإطار الزمني والتاريخي لهذه الحضارة، وترك تأثيرا مهما في منظومة الثقافة الإسلامية، في مكوناتها وتشكلاتها، وفي حركتها ومساراتها.


هذا المفهوم بحاجة إلى حفريات معرفية جديدة، لاستظهار مدلولاته، والكشف عن مكوناته العميقة والمتجددة والفاعلة، وبوصفه المفهوم الذي يقارب مفهوم الحداثة.


وتتأكد قيمة مفهوم الاجتهاد وحيويته عند معرفة أن جميع المنجزات الفكرية والعلمية والحضارية التي حصلت وتحققت في ساحة الحضارة الإسلامية، كانت بتأثير هذا المفهوم، فهذه المنجزات هي ثمرة من ثمرات الاجتهاد، فهو الذي بعث الروح، وألهم الثقة، وأكسب الشجاعة، وحفز على المعرفة، وحرض على الفعل والمبادرة، وأنجب لنا مجتهدين في الفلسفة مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد، ومجتهدين في العلم مثل الخوارزمي وابن الهيثم وابن النفيس، وهكذا في باقي المجالات الأخرى التفسير والحديث والكلام والتاريخ واللغة.


ثم إن الحداثة هي حداثات، فكل الحضارات الكبرى في التاريخ الإنساني القديم والحديث كانت لها حداثاتها، فالصين لها حداثتها، والهند لها حداثتها، واليابان لها حداثتها، وعالم الإسلام كذلك له حداثته.




  • ترى هل ما تزال هناك قضايا غير مفكر فيها لم يتم التطرق إليها على أهميتها بالنسبة لواقعنا المعاصر؟

دائما هناك قضايا تدخل في دائرة اللامفكر فيها، وتظهر مثل هذه القضايا في أغلب الأزمنة وبين مختلف الأمم والمجتمعات، والمفكرون من الملل كافة هم الأقدر من غيرهم والأوثق في اكتشاف هذه القضايا وفحصها وتشخيصها وتسليط الضوء عليها، وما من مفكر تقريبا إلا وله سيرة مع مثل هذه القضايا، على اختلاف هذه السير وتعدد أنماطها.


وأظن أن قضية المقاربة بين الحداثة والاجتهاد تدخل في نطاق هذه القضايا اللامفكر فيها، وأهمية هذه القضية تكمن في تأكيد أن بناء الحداثة لا يتحقق إلا من خلال تأسيس داخلي، وليس عن طريق جلب خارجي، وأننا بإمكاننا أن نكتشف حداثتنا المستقلة عن طريق مفهوم الاجتهاد، مع شرط التواصل المعرفي والنقدي مع الحداثة في أفقها الإنساني العام، وليس على أساس الانقطاع عنها.




  • تربط الفلسفة بالتقدم والنهوض في كتابك “مدخل إلى المسألة الفلسفية” لكن كيف يمكننا التعاطي مع الفلسفة والفكر الفلسفي في محيط ما يزال يرى في الفلسفة خطرا؟

 ليس هناك تقدم بلا فلسفة تدعو للتقدم، وتجعل من التقدم مطلبا وأفقا وطريقا، وليس هناك نهوض بلا فلسفة تدعو للنهوض، وتجعل من النهوض كذلك مطلبا وأفقا وطريقا، والمقولة التي ترى أن الفلسفة الغربية تمثل روح الحضارة الغربية هي مقولة صائبة، الأمر الذي يعني أن معرفة الحضارة الغربية وروحها لا يتحقق إلا من خلال تكوين المعرفة بالفلسفة الغربية، فالفلاسفة الغربيون هم أباء هذه الحضارة.


ونحن بحاجة إلى الفلسفة للتخلص من وهم أن الفلسفة تمثل خطرا، ولتغيير طريقة التعاطي معها، وإزالة الشكوك المتوارثة حولها، والتوقف عن النظرة الشكية غير العلمية التي تصور الفلسفة بشكل خاطئ وملتبس، وقد تأخرنا كثيرا في هذا الشأن وتضررنا كذلك، خاصة من جهة مواجهة التطرف بالعقل النقدي، وبات من المعيب حقا أن نعرف عند العالم بهذا الموقف، ولا بد أن نفك الخصومة مع الفلسفة ونتصالح معها.




  • كيف ترى المشهد الفكري في المملكة، هل لدينا مفكرون في رأيك يتبنون قضايا جوهرية ويبتكرون رؤى وأساليب للنظر فيها؟

الذي أراه أن جانب الغلبة في المشهد العام عندنا يتحدد بصورة رئيسة في اتجاهين هما: الأدب والدين، الأدب بفنونه وأجناسه من الشعر والقصة والرواية والنقد، والدين بعلومه ومعارفه من العقيدة والكلام والحديث والفقه..


ومن يريد أن يتوثق بهذا الأمر في جانب منه، يمكن الرجوع إلى قوائم إصدارات الأندية الأدبية الستة عشر، ليجد أن حظ الفكر في هذه الإصدارات متدن، ولا يمثل إلا نسبة بسيطة لا تكاد تذكر أمام تفوق فنون الأدب وأجناسه.


ويتأكد هذا الأمر كذلك، عند العودة إلى مناشط هذه الأندية على مستوى المحاضرات والأمسيات والمنابر والندوات والملتقيات التي يحضر فيها الأدب بفنونه ويتسيد ويتفوق، ويتراجع فيها الفكر ويكاد يكون غائبا ومنسيا، وهكذا في جوانب وأبعاد أخرى.


ولدينا مفكرون ولهم مشاريعهم الفكرية، وابتكاراتهم على مستوى الأفكار والنظريات والأطروحات، لكننا لم نتعرف عليهم بالقدر الكافي، وبعضهم لهم شهرة في المجال العربي تفوق شهرتهم في مجالنا الوطني.




  • ترى ما التحديات التي تواجه المفكر في الوطن العربي؟

لا بد من الالتفات إلى أن المفكرين يكسبون مجتمعاتهم قوة وعظمة وافتخارا، فلولا سقراط وأفلاطون وأرسطو لما بقي ذكر للحضارة اليونانية القديمة، وهكذا الحال في المجتمعات والحضارات الأخرى القديمة والحديثة، الأمر الذي يقتضي إعطاء المفكرين حقهم من الاعتبار الأخلاقي، إلى جانب الإصغاء إليهم وطلب المشورة منهم بوصفهم الحكماء في مجتمعاتهم، وإعطائهم هامش التعبير عن الرأي، وفسح المجال لهم لطرح أفكارهم.




  • هناك من يرى أن الفكر العربي ما زال أسير الثنائيات: الأصالة والمعاصرة، الحداثة والتقليد، النقل والعقل، متى نخرج من هذه الحالة؟

هذه المقولة في حاجة إلى مراجعة، لأن الفكر لا يتحرك بمنطق الأحديات، وإنما يتحرك بمنطق الثنائيات، وليس هناك جدل وحركة في منطق الأحديات، فالجدل والحركة إنما تظهر في منطق الثنائيات، وهذا ما تأكده وترشدنا إليه قوانين الطبيعة والاجتماع والقيم والأخلاق، كثنائية الليل والنهار، الخير والشر، الحق والباطل، الدنيا والأخرة، الذكر والأنثى وهكذا.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى