المدينة، (جدة) صحيفة يومية، الأربعاء 18 جمادى الأولى 1435هـ / 19 مارس 2014م، العدد 18592، ص24.

حوار فكري مع صحيفة (المدينة)


 


 




  •       أجرى الحوار: نايف كريري

انشغل المفكر زكي الميلاد منذ زمن على صياغة مفهوم حوار الحضارات المناهضة لفكرة صدام الحضارات، وتفاوت هذا الاشتغال بين البحث مع ما يؤكده في القرآن الكريم، وما يدعمه في تاريخ الفكر الإسلامي، وما قدمه مفكري النهضة العربية منذ القرن الماضي، وحقق في هذا المجال العديد من الدراسات والأبحاث والكتب التي لاقت صدى واسعا في عالمنا العربي، وامتد ذلك إلى دراستها من قبل البعض ومناقشتها بصورة علمية وبحثية.


وإلى جانب هذه العناية بالمسألة الحضارية، قدم العديد من الأطروحات التي تتطرق إلى جانب النظر في قضايا الثقافة والمثقفين في محاولة لصياغة فكر ثقافي عربي يرى أنه تأخر الاهتمام به كثيرا في عالمنا العربي، مقابل العديد من النماذج الأوروبية والغربية التي عنيت بهذا المجال، واهتمت به، وأفردت له العديد من الكتب والدراسات على عكس ما هو لدينا اليوم. مؤكدا على أهمية الإعلاء من قيمة الثقافة، وإعطائها درجة عالية من الأولوية، والاستلهام منها، والتخلق بها، واعتمادها كمنظور في التحليل والنقد والاستشراف.


فالثقافة بحسب رؤيته هي تلك الطاقة والقوة والروح التي تبعث على التجدد والتقدم والنهوض، مع التركيز على الجوهر الإسلامي للثقافة، والاهتمام بأبعادها الإنسانية والأخلاقية والحضارية.


الميلاد مفكر وباحث ألف العديد من الكتب منها: دراسات في تاريخ الفلسفة الإسلامية، والإسلام والحداثة.. من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامية، ونحن والثقافة.. تأملات في مجالنا الثقافي ومستقبلياته، وهل المثقفون في أزمة؟، والإسلام والإصلاح الثقافي، والمسألة الثقافية.. من أجل بناء نظرية في الثقافة، وتحولات الفكر والثقافة في الحركة الإسلامية، والحركة الإسلامية ومعالم المنهج الحضاري، وغيرها من الكتب المهمة والمختلفة في مجالات متعددة.


 


نظرية ثلاثية الأبعاد




  •      على أي أسس اعتمدت في نظرية تعارف الحضارات، وما المنهج الذي اتخذته لبلورتها؟

الأسس المنهجية التي اعتمدت عليها في التأسيس لنظرية تعارف الحضارات، تحددت في ثلاثة جوانب أساسية، هي:


أولا: جانب الفحص والنقد، ويتصل هذا الجانب بمرحلة ما قبل النظرية، ويتحدد بفحص ونقد المفهوم السائد في مجال العلاقات بين الحضارات.


ثانيا: جانب الأصل والمثال، ويتصل هذا الجانب بمرحلة زمن النظرية، ويعني أن فكرة تعارف الحضارات تستند على أصل، وهو أصل ثابت ومتماسك، يرجع إلى القرآن الكريم والذي هو أصل أصول كما يقول أهل الأصول.


ثالثا: جانب القياس والاختبار، ويتصل هذا الجانب بطور ما بعد الكشف عن نظرية تعارف الحضارات، إذ يمكن القول إن هذه النظرية تجاوزت مرحلة القياس والاختبار، ودخلت المجال التداولي، وكل من تعرف إليها وجد فيها تخلقا وغنى، وهناك من فضلها وقدمها على باقي النظريات الأخرى، وجرى التطرق لها في العديد من المؤلفات والمقالات، ونوقشت حولها العديد من الرسائل الجامعية ماجستير ودكتوراه، وعقدت حولها العديد من الندوات والمؤتمرات العربية والدولية، وما زالت تحافظ على حيويتها وديناميتها.


 


المعرفة والاعتراف


 




  •         كيف يمكن تطبيق هذه النظرية في عالم اليوم الذي يعج بالكثير من الصراعات؟

هذه الصراعات التي يعج بها عالم اليوم، هي من أكثر ما يلفت الانتباه إلى نظرية تعارف الحضارات، ومن أشد ما يؤكد الحاجة إليها، ومن حكمة هذه النظرية، أنها تدعو إلى المعرفة والاعتراف، المعرفة لإزالة نفي الجهل على مستوى النظر، والاعتراف لإزالة نفي الإلغاء على مستوى الوجود.


وأكثر الصراعات التي حصلت وتحصل في العالم، إما أنها ترجع إلى عوامل وأسباب لها علاقة بالجهل، باعتبار أن الناس أعداء ما جهلوا، وما أنها ترجع إلى عوامل وأسباب لها علاقة بإلغاء الآخر وإقصائه.


وعلى ضوء هذه الحكمة، فإن تعارف الحضارات تأتي وتدعو الحضارات إلى تجديد نظرتها إلى ذاتها من جهة، وإلى إصلاح نظرتها إلى باقي الحضارات من جهة أخرى، بما يزيل مسببات الصراع والصدام بين الحضارات.


 


لا تعارض


 




  •         نظرية التدافع والدفع القرآنية، ألا ترى أنها تتعارض مع نظريتك هذه المعتمدة على التعارف بين الحضارات؟

ليس هناك تعارض بين فكرة التدافع الواردة في قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، وبين فكرة التعارف، وكل واحدة لها مجالها الذي تتصل به، ففكرة التدافع مجالها يتصل بالعمران الإنساني، ولولاه لفسدت الأرض، وبهذا المعنى فإن فكرة التدافع تقع في طريق العمران وقيام الحضارات.


أما فكرة التعارف فمجالها يتصل بالعلاقات ما بين الحضارات، وما بين تعاقب الحضارات وتوارثها، فالحضارات تتعاقب وتتوارث عن طريق التعارف، ومن دونه لا يحصل التعاقب، ولا يتحقق التوارث. وبهذا المعنى فلا تعارض بين الفكرتين.


 


توجه منغلق


 




  •         الإسلام السياسي بوصفك أحد متابعيه، لماذا ينقصه التفكير في المشروع الحضاري المنطلق من تراثه؟

الإسلام السياسي المعاصر يكاد يكون منصرفا كليا إما نحو السياسة والهم السياسي، وإما نحو الدعوة والخطاب الدعوي، ولا يكاد يقترب من المشروع الحضاري، ولعل السبب في ذلك، أن التفكير في المشروع الحضاري بحاجة إلى أفق حضاري، يتجاوز الأفق السياسي، ويتخطى الهم الدعوي.


 


فشل ونكسة


 




  •        حالات الربيع العربي المحدودة، ووصول الإسلام السياسي للحكم، هل استطاع أن يعكس هذا الوصول خطابا حضاريا برأيك؟

سوف يسجل المؤرخون لاحقا، أن الربيع العربي الذي مر على المنطقة العربية مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قد فشل فشلا سريعا، وخلال فترة قياسية، وسرعان ما تحول إلى نكسة، وهذا ما يثير الدهشة حقا.


وفي المقاييس السياسية، فإن الإسلاميين الذي وصلوا إلى الحكم خلال فترة ما سمي بالربيع العربي، لم يتمكنوا من خلق التوافق الوطني، وفشلوا في هذا الجانب، وهو أخطر جانب في المجال السياسي، والفشل في هذا الجانب، يغلق الحديث عن المشروع الحضاري، أو الخطاب الحضاري.


 


خارج التاريخ


 




  •         الوصول إلى الحضارة لا بد أن يمر بمرحلة النهضة أو النهوض، هل لهذه المرحلة ملامح فيما وصل إليه العالم العربي اليوم؟

مع بداية الربيع العربي نشرت مقالة بعنوان (العالم العربي لم يعد خارج التاريخ)، ردا على مقولة الكاتب المصري الدكتور فوزي منصور صاحب كتاب (خروج العرب من التاريخ) الصادر سنة 1990م، وختمت المقالة في الأسطر الأخيرة بالقول: لقد تغير العالم العربي، وتغيرت معه صورته في الداخل والخارج، وبدأ يسطر صفحات جديدة، صفحات كانت إلى وقت قريب تمثل حلما بعيدا، أو حلما ضائعا، أو حلما مفقودا، لكنه باتت اليوم حلما واقعا ملموسا، نعيشه ونحسه وكأننا نستعيد الروح من جديد.


هذه الرؤية تغيرت اليوم، وانقلبت الصورة، وعدنا مرة أخرى إلى زمن النكبة والنكسة والكارثة، وبات العالم العربي اليوم يبتعد عن النهضة ولا يقترب، وما زالت تفصله مسافات بعيدة.


 


ضعف وفقر


 




  •         كيف ترى الاهتمام العربي والإسلامي بالثقافة، وهل تم استيعاب حالة الصراع الحضاري الدائر حولها؟

الإجابة على هذا السؤال وجدتها وافية شافية في المقدمة التي كتبتها للطبعة الثانية من كتابي (المسألة الثقافية.. من أجل بناء نظرية في الثقافة)، وقلت فيها: من المفارقات اللافتة أن الأوروبيين الذين اعتنوا بفكرة الثقافة منذ قرون عدة، وأنجزوا حولها العديد من الكتابات والدراسات الفاعلة والمؤثرة في وضعياتهم الثقافية والاجتماعية، ما زالوا إلى اليوم يعتنون بهذه الفكرة وبدرجة عالية من الاهتمام، ويتعاملون معها كما لو أنها من مسائل اليوم الحديثة والمتجددة.


وبخلاف هذا الحال تماما، ما يجري في المجال العربي الذي لم يشهد من قبل عناية بفكرة الثقافة، وما زال يعاني اليوم من ضعف وفقر وجمود في هذا الشأن، والكتابات العربية التي تناولت هذه الفكرة كانت وما زالت قليلة ومحدودة، ولا تلفت الانتباه كثيرا، وقلة من الناس الذين يتعرفون على هذه الكتابات، ويعتنون بها، ويتواصلون معها، وهذا مظهر من مظاهر تجليات أزمة ومشكلة الثقافة في مجالنا العربي.


وإلى اليوم لم تتشكل في النطاق العربي والإسلامي، إرادة فكرية اجتهادية تحاول دراسة وتحليل فكرة الثقافة على الطريقة التي جرت عند الأوروبيين، ومكنتهم من القبض على هذه الفكرة، والتعامل معها بمعرفة ودراية، والاستفادة من حكمتها وبصيرتها.


 


أزمة المثقفين


 




  •         في ضوء مفهومك لقيمة الثقافة ماذا يمثلون المثقفون في عالمنا العربي؟ وهل يعيشون في أزمة مع واقعهم، ومع تعاطيهم مع مفهوم الحضارة؟

المثقفون بصورة عامة لهم قيمتهم الأخلاقية والاعتبارية، لكونهم يتخذون من العلم والثقافة وجهة ومسارا لهم، لكنهم في العالم العربي لا يحظون بهذه القيمة الأخلاقية والاعتبارية، وذلك نتيجة عاملين مهمين، الأول له علاقة بالثقافة، والثاني له علاقة بالمثقفين أنفسهم.


بشأن العامل الأول، في ظل تراجع الثقافة في العالم العربي لا يمكن إدراك قيمة المثقفين، وهذه الصورة لن تتغير ما لم يتغير واقع الثقافة، ويتحول من حالة التراجع إلى حالة الازدهار.


وبشأن العامل الثاني، فإن بعض المثقفين هم الذين تسببوا في تراجع قيمتهم الأخلاقية والاعتبارية، وذلك حين وضعوا أنفسهم في غير موضعهم اللائق بهم.


وإذا كانت هناك أزمة بين المثقفين مع واقعهم، فهي ناشئة بتأثير هذين العاملين.


أما بشأن تعاطيهم مع مفهوم الحضارة، فهذا المفهوم حاضر بصورة عامة في ساحتهم، لكن درجات الاقتراب منه تتفاوت بينهم.


 


صور متعددة


 




  •         حالة الصراع الحضاري تستدعي حالة الصراع الثقافي الداخلي في الحضارة الواحدة، وخاصة في عالمنا العربي، والتي يمثلها صراع المثقفين أنفسهم، كيف تقرأ هذا الواقع؟ وكيف يمكن تصحيح صورة المثقف لكي يسهم في تصحيح المسار الثقافي؟

أحد إشكاليات العلاقة بين المثقفين، هي تحول العلاقة من حالة الجدل والنقاش، إلى حالة الصدام والصراع، في حالة الجدل والنقاش يتسع أفق الثقافة، وفي حالة الصدام والصراع يضيق أفق الثقافة، الجدل والنقاش يتشكل عادة على أرضية عالم الأفكار، في حين يتشكل الصدام والصراع عادة على أرضية عالم الأشخاص.


والمثقف هو اعرف بصورته، وبإمكانه تصحيح هذه الصورة متى ما أراد، كما أن المثقف ليس على صورة واحدة، ولا يقبل أن يكون على صورة واحدة، وإنما هناك صور للمثقف، ولا ضير في ذلك، بشرط أن يحتفظ المثقف بحسه الأخلاقي، وضميره الحي.

زر الذهاب إلى الأعلى