الوسطية، مجلة إسلامية وسطية فصلية مستقلة، تصدر عن المنتدى العالمي للوسطية العدد الأول، السنة السادسة، رجب 1434هـ/ يونيو 2013م

المفكر الأستاذ زكي الميلاد للوسطية


 




  •        أجرى الحوار: الكاتب الأردني الأستاذ حسين الرواشدة

يتحدث الأستاذ زكي الميلاد عن مشروعه الثقافي ويشرح مرتكزاته، ويرى أن الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالأمة، كسؤال الديمقراطية والحرية والدين والمرأة ستظل حاضرة في ساحتنا الفكرية كاختبار للمعرفة، وكمقياس للتطور، لكن الإجابة عليها يفترض أن يكون على الأرض وفي الميدان والتجربة لا مجرد نظريات على الورق فقط.


ويؤكد الأستاذ الميلاد أن الفكر الإسلامي في طريقه إلى التصالح مع الديمقراطية، وأن المهم ليس وصول الإسلاميين إلى السلطة وإنما وصولهم لها عبر صناديق الانتخاب، معتقدا أن التحولات التي حدثت في عالمنا العربي خرجت من رحم الشعوب المقهورة.


 




  •         قدمتم مشروعا أتخذ أبعادا حضارية وثقافية تتعلق بـأمتنا العربية، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ما هي مرتكزات هذا المشروع.. وإلى أي مدى يمكن له أن يتواصل أو أن يتقاطع مع المشروعات الإحيائية والنهضوية التي طرحت على مدى أكثر من مئة عام؟

بعد ما يزيد على عقدين من العمل الفكري والثقافي المستمر والمتراكم، والذي لم ينقطع أو يتوقف، بعد هذه التجربة الحية تبلورت عندي، وتحددت ملامح مشروع ثقافي، اجتهدت قدر الإمكان أن يكون جادا، ويتسم بالحضور والحركة والفعالية، ويتخذ من المسألة الحضارية وجهة له.


ويرتكز هذا المشروع الثقافي على أربعة أبعاد أساسية هي:


أولا: التأكيد على قيمة الثقافة والإعلاء من شأنها، وإعطائها درجة عالية من الأولوية، والاستلهام منها والتخلق بها، واعتمادها كمنظور في التحليل والنقد والاستشراف، فالثقافة هي تلك الطاقة والقوة والروح التي تبعث على التجدد والتقدم والنهوض، مع التركيز على الجوهر الإسلامي للثقافة، والاهتمام بأبعاده الإنسانية والأخلاقية والحضارية.


ثانيا: دراسة الفكر الإسلامي، قضاياه ومسائله ومقولاته، وهكذا تطوراته وتحولاته، مساراته ومسلكياته، والتأكيد على ضرورة التواصل مع العصر، ومواكبة العلوم والمعارف، والانخراط في حركة العالم، والعناية بقضايا التجديد والتحديث والتنوير المنضبط بالقواعد والأصول العامة في نطاق المرجعية الإسلامية.


ثالثا: العناية بالمسألة الحضارية، التي تعني النظر إلى القضايا والظواهر والمشكلات على أساس منهج التحليل الحضاري، الذي يأخذ بعين الاعتبار مشكلات التخلف من جهة، وضرورات التقدم من جهة أخرى. فالتخلف بكافة صوره وأنماطه هو المشكلة الأولى والكبرى في الأمة، والتقدم هو السبيل للتغلب على مشكلة التخلف من جهة، والنهوض باتجاه التحضر من جهة أخرى، وهذا يتطلب التأكيد على طلب العلم وحب المعرفة، وتطوير مؤسسات التعليم، والنهوض بالبحث العلمي، وتقدير العلماء، كما تعني المسألة الحضارية استشراف مستقبلنا الحضاري في هذا العالم.


رابعا: الاهتمام بقضايا الوحدة الإسلامية والحوار الإسلامي والتقريب بين المذاهب الإسلامية، واعتبار وحدة الأمة من الضرورات المقدسة، والواجبات العليا. وأن مصير الأمة ومستقبلها الحضاري يرتبط بوحدتها وتكاملها، فالوحدة هي مصير ومستقبل، والحوار هو فضيلة وتواصل، والتقريب هو انفتاح وتكامل، والعمل على إحياء كل ما هو جامع في الأمة، ورفض خطوط الانقسام بكافة صورها وأنماطها.


هذا المشروع بهذه الأبعاد الحضارية والنهضوية لا شك أنه يحمل في بنيته ومكوناته ممكنات التواصل والتقاطع مع مشروعات النهضة في الأمة، المشروعات التي اتخذت من النهضة سبيلا، ومن الأمة الواحدة والجامعة انتماء.


 




  •         ثمة أسئلة كبرى ما تزال معلقة على صعيد فكرنا العربي والإسلامي المعاصر، من أبرزها سؤال الدين وسؤال الديمقراطية وسؤال المرأة وسؤال الدولة.. كيف يمكن حسم هذه الأسئلة بإجابات مقنعة.. وهل حان وقت ذلك فعلاً؟

هذه الأسئلة الكبرى ستظل حاضرة على طول الخط في ساحة الفكر العربي والإسلامي المعاصر، وهي من جهة تمثل اختبارا لمعرفة قياسات مستويات التطور في بنية ومسارات الفكر العربي والإسلامي المعاصر، وفي أنماط رؤيته إلى العالم، ومن جهة أخرى تمثل تحديا لمعرفة قياسات مستويات الاستجابة الاجتهادية في حركة الفكر العربي والإسلامي لمعاصر.


وفي ساحة الفكر الإسلامي المعاصر هناك من يرى أن التقدم نحو هذه الأسئلة الكبرى يأتي عن طريق تطوير العمل الفكري، ورفع مستويات البحث النظري والتنظيري، وهذا صحيح من جهة، ولكنه ليس كاملا من جهة أخرى.


والذي أراه أن التقدم نحو هذه الأسئلة لن يكون عن طريق عمليه فكرية تستند على البحث والتحليل النظري المجرد، وإنما هو بحاجة إلى تحقيق تقدم على الأرض يجري في حركة الحياة.


ويمكن اختبار هذه النظرية عند النظر إلى طبيعة منظورات الرؤية لتلك الأسئلة في البيئات والمجتمعات العربية والإسلامية، التي تتفاوت في درجات ومستويات التقدم الفعلي على الأرض، ففي البيئات والمجتمعات التي تعيش حركة التقدم مثل ماليزيا وإيران وتركيا سنجد أن لها منظورات مختلفة ومتقدمة عن تلك البيئات والمجتمعات الإسلامية الأخرى الأقل تقدما.


الأمر الذي يعني أن طريقة النظر إلى تلك الأسئلة ستشهد تقدما كلما تقدمت الحياة، وما لم يحصل هذا التقدم في البيئات والمجتمعات العربية ستظل طريقة النظر إلى تلك الأسئلة تتسم غالبا بالجمود والسكون، وتفتقد إلى عنصر الحركة والفعالية.


 




  •         في عصر التحولات التي يشهدها عالمنا العربي، هل تعتقد أن الثورات خرجت من رحم الشعوب، أم أنها صناعة تداخلت فيها عوامل مختلفة، وأخترقها لاعبون معروفون أو مجهولون؟

يكشف هذا السؤال من جهة، كيف أن موجة التحولات التي عصفت بالمنطقة العربية يكتنفها جانب التعقيد والغموض، وذلك نتيجة تعدد وتداخل العناصر المؤثرة فيها، العناصر الداخلية والخارجية، المحلية والدولية، الظاهرة والغامضة، المعروفة وغير المعروفة، ونتيجة تسارع وتيرة موجة هذه التحولات بطريقة قياسية نادرة الحدوث في المجال العربي بشكل خاص، فمن هذه الجهة هناك جانب التعقيد والغموض في هذه الموجة من التحولات.


ومن جهة أخرى، كشفت هذه الموجة من التحولات، كيف أننا في المجال العربي لا نملك قدرة التحكم والسيطرة على مجالنا وأوضاعنا, ولا نملك أيضا المعرفة والدراية الكاملة بمجالنا وأوضاعنا، إلى درجة تأخذنا الحيرة، ونظل حائرين في طريقة تكوين المعرفة بهذه الموجة من التحولات التي تحدث أمام أعيننا، وفي حاضرنا وليس في ماضينا، وفي مجالنا وليس في مجال غيرنا.


وأمام هذه الموجة من التحولات المفاجئة والمتسارعة والمؤثرة هناك من يرى أنها خرجت من رحم الشعوب التي لولاها لما حصلت هذه التحولات، إلى جانب من يرى أن هذه التحولات لم تكن بعيدة عن التأثير الغربي الذي لولاه لما وصلت هذه التحولات إلى ما وصلت إليه، ولعل في قناعة الغربيين أنهم هم الذين صنعوا هذه الموجة من التحولات، أو أنهم الذين جعلوا هذه الموجة من التحولات تصل إلى ما وصلت إليه.


والذي أراه أن هذه الموجة من التحولات خرجت من رحم الشعوب المقهورة، لكن الغربيين دخلوا على الخط حتى لا تنقلب هذه الموجة عليهم، حفاظا على مصالحهم، وليس دفاعا عن حق الشعوب.


 




  •        وصل الإسلاميون على اختلاف اتجاهاتهم إلى بعض مواقع السلطة في عالمنا العربي، كيف تقيمّ هذه التجربة، وما هي أبرز التحديات التي تواجهها؟

مع هذه الموجة من التحولات دخل الإسلاميون مرحلة جديدة سوف يؤرخ لها في تاريخ تطور مسارات الحركة الإسلامية في العصر الحديث، والجانب المهم في هذا التطور ليس وصول الإسلاميين إلى مواقع السلطة في العالم العربي، وإنما المهم أن وصول هؤلاء إلى السلطة كان عن طريق الديمقراطية، واختيار الناس لهم عبر صناديق الاقتراع، من خلال انتخابات حرة ونزيهة.


لكن هذا التطور وضع الإسلاميين أمام اختبار صعب، وإذا كان من المبكر الحكم على تجربتهم بالفشل أو النجاح، أو ما بين البين، مع ذلك يمكن القول إن فرص النجاح ستكون صعبة، والأصعب من ذلك الاعتراف لهم بالنجاح، أو السماح لهم بالنجاح وهم في السلطة، وذلك لأنهم ورثوا من السلطات السابقة واقعا طويلا ومتراكما من الفشل والعجز والإخفاق في كافة الميادين تقريبا.


ومن أبرز التحديات التي ستواجههم وهم في السلطة، تحدي إدارة اقتصاديات الدولة، وإمكانية تحقيق نجاحات اقتصادية فعلية وملموسة خلال فترة وجيزة، إلى جانب تحدي بقاء قناعة وثقة الناس بقدرتهم على إدارة مؤسسات الدولة.  


 




  •         هل تصالح الفكر الإسلامي مع الديمقراطية.. وهل لدينا في مخزوننا التاريخي تجربة حكم إسلامي يمكن الاستناد إليها أو الاستفادة منها؟

هناك مفارقات لافتة في ديناميات تطور العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في المجالين العربي من جهة، والإسلامي غير العربي من جهة أخرى، إذ يمكن القول إننا كلما ابتعدنا عن المجال العربي، وجدنا نمطا ومسارا مختلفا ومغايرا في ديناميات تطور هذه العلاقة، هو أكثر نضجا وتقدما من النمط والمسار السائد في المجال العربي.


وتتكشف هذه الملاحظة بالإشارة إلى ثلاث مفارقات أساسية، هي:


أولا: في المجال العربي كان الجدل والنقاش وما زال حول الإسلام والديمقراطية، يتحدد بصورة رئيسية ويتركز حول العلاقة بين الشورى والديمقراطية، وبطريقة يغلب عليها الجدل النظري المتحيز أيديولوجيا من جهة، والمفتقر للعمق المعرفي من جهة أخرى.


والأقوال المتداولة في هذا الشأن، باتت متكررة ومعروفة لكثرة الحديث عنها، وتعيد إنتاج نفسها كما هي أو بصور مختلفة، فهناك من ينحاز إلى الشورى ويرفض الديمقراطية أو يتحفظ عليها، إلى جانب من ينحاز إلى الديمقراطية ويرفض الشورى أو يتحفظ عليها. وهناك من يرى إمكانية الجمع بين الشورى والديمقراطية، إلى جانب من لا يرى إمكانية الجمع بينهما. وهناك من يرى ديمقراطية في الشورى، إلى جانب من لا يرى ديمقراطية في الشورى، وهناك من يرى أن الشورى ملزمة، إلى جانب من يرى أنها معلمة.


إلى غير ذلك من أقوال لا تقدم ولا تؤخر، وكان يفترض أن تكون من مخلفات الماضي وعفا عليها الزمن، وتلاشت واضمحلت، لأنها لا تحرك ساكنا، ولا تغير واقعا، ولا تقدم حلا، ولا تعالج مشكلة.


ومتى ما ابتعدنا عن المجال العربي تغير هذا النمط من الجدل النظري العقيم، إلى نمط ومسار آخر بعيدا عن المطارحة أو المفاضلة بين الشورى والديمقراطية، إلى البحث عن إمكانية التوافق والتناسب والتكيف بين الدين والديمقراطية، على قاعدة التمسك بالديمقراطية وليس رفضها أو التشكيك فيها.


ثانيا: إن الأصوات التي ارتفعت عاليا في رفض الديمقراطية ومقتها وتصويرها بأشد الأوصاف تنكيرا، واعتبارها كفرا ومنكرا واستلابا وعصيانا لأمر الله سبحانه، وخروجا على هدي الدين وشريعته إلى غير ذلك من نعوت وأوصاف بالغة الذم والتنكير.


هذه الأصوات الصاخبة إنما ظهرت وعرفت وارتفعت نبرتها بشكل أساسي في المجال العربي، ومتى ما ابتعدنا عن هذا المجال إلى المجال الإسلامي غير العربي خفت هذه الأصوات، وهدأت نبرتها، وكادت تختفي وتتلاشى، وإذا وجدت فإنها لا تحض بالوزن التي هي عليه في المجال العربي.


ثالثا: لا يمكن القياس أو المقارنة بين ديناميات تطور الديمقراطية والحياة السياسية في المجال العربي ما قبل عصر التحولات الأخيرة، وفي المجال الإسلامي غير العربي. وهذا ما تؤكده وتبرهن عليه الحقائق والوقائع الفعلية، وما يدركه ويعرفه من قريب أو بعيد المراقبون والمتابعون للشؤون السياسية والديمقراطية، وما تشير إليه وتتحدث عنه التقارير والدراسات المسحية والاستطلاعية المتخصصة والمعنية بمراقبة الديمقراطية والتطور الديمقراطي في العالم.


وحسب هذه التقارير والدراسات الدورية وغير الدورية فإن العالم العربي دائما ما يصنف على الدول الأقل تطورا في مجال الديمقراطية، والأشد جمودا في الانفتاح السياسي.


وبصورة عامة يمكن القول إن الفكر الإسلامي في طريقه للتصالح مع الديمقراطية، وكل تجارب الحكم التي مرت على العالم الإسلامي يمكن الاستفادة منها، إذا لم يكن من جهة الديمقراطية، فمن جهة نقد الاستبداد.


 




  •         بعض كتباتك مسكونة بهواجس الاختلاف مع الآخر أو التعايش والحوار معه.. ترى متى يكون الحوار مع الآخر ذا جدوى.. وما هي شروطه وكيف يمكن أن ننتقل من دائرة الاستقبال فقط إلى دائرة الإرسال والفاعلية الحضارية في علاقتنا مع الذات والآخر؟

عند النظر في مفهوم الآخر يمكن الفصل والتمييز بين جانبين أساسيين لا بد من الإشارة إليهما، والتأكيد عليها في تكوين المعرفة بهذا المفهوم، وفي طريقة التعامل معه، وهما الجانب الأخلاقي والإنساني من جهة، والجانب الفكري والثقافي من جهة أخرى.


في الجانب الأخلاقي والإنساني ليس هناك ما يسمى بالآخر، ولا ينبغي إطلاق مفهوم الآخر في هذا الجانب، وذلك لأن الطبيعة الإنسانية هي واحدة وثابتة من حيث الجوهر والخلق والتكوين، ولا تختلف أو تتمايز بين جميع البشر، وهذا ما يعرفه البشر أنفسهم، منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض، ومهما اختلفت ألسنة الناس ولغاتهم، ألوانهم وأعراقهم، مدنياتهم وثقافاتهم.


وليس هناك إنسان غير بين بني الإنسان، فالخلق كلهم عيال الله، فطرهم على فطرته ولا تبديل لخلق الله، وخلقهم في أحسن تقويم، وجعلهم على أحسن صورة.


ومن هذه الجهة، فإن النظرة الأخلاقية تنفي إطلاق مفهوم الآخر بين البشر على أساس اللون أو العرق أو اللسان، وترفض وتواجه من يقبل أو يتبنى مثل هذه التصورات وهذه الأفكار، ومن يتحدث عنها أو يميل ويشير إليها.


وربط مفهوم الآخر بالجانب الفكري والثقافي، يستند على خلفية أن هذا المفهوم هو الذي يشير إلى تلك الاختلافات الفكرية والثقافية الفارقة والفاصلة، التي تظهر بين المجموعات والجماعات البشرية، ولا يتعلق بالاختلافات البسيطة أو السطحية أو العابرة. ويكشف عن ذلك طريقة التعاطي بهذا المفهوم بين المجموعات المختلفة، فهو لا يجري التعامل معه عند هؤلاء إلا على أساس الاختلاف الفكري والثقافي الفارق والفاصل بين هذه المجموعات.


وفي هذا النطاق طرحت فكرة أطلقت عليها (تعارف الحضارات)، هذه الفكرة تحولت اليوم إلى نظرية متداولة وحاضرة في المجال التداولي العربي والإسلامي، وهذه النظرية تستند على أصل ثابت من القرآن الكريم، وتحديدا في آية التعارف في سورة الحجرات في قوله تعالى (يا أيها إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، وتنطلق هذه النظرية من مبدأ نفي الجهل بالآخر، وتكوين المعرفة والاعتراف به وبوجوده الإنساني.


 




  •         كثيرون في عالمنا العربي أصبحوا مؤمنين بفكرة الإصلاح، هل يكفي الإيمان بالفكرة أم أننا بحاجة إلى مشروع للإصلاح حتى ندخل عصر الإصلاح، ونتجنب ارتدادات زلازل التغيير التي تتواصل في منطقتنا؟

الإصلاح هي المهمة التي لا تحتمل التأجيل أو التأخير في العالم العربي، وهي المهمة التي تبدأ ولا تنتهي، وذلك لأن العالم العربي بقي زمنا طويلا بعيدا عن ركب الإصلاح، وكاد أن يكون عصيا على الإصلاح، وحينما انبعثت فكرة الإصلاح واكتسبت زخما كبيرا في المجال العربي، توقفت عند هذه الفكرة ووجدت أنها تمثل لحظة تاريخية لا ينبغي أن تفوت على الإطلاق، أو تمر علينا دون أن تشرق وتتخلق فينا، وتفعل فعلها في تغيير أحوالنا وأوضاعنا البائسة والمتردية، وتعيد لنا الروح الذي كاد يخرج منا بلا عودة.


فطالما ترقبنا وانتظرنا مثل هذه اللحظة التاريخية التي لا تمر على الأمم بسهولة، وفي أي وقت، وكيفما نشاء، ولا خيار أمامنا إلا بالتمسك بهذه الفكرة، وتحويلها إلى فلسفة نعتصم بحبلها، ونعطيها قوة المعنى. وذلك لشدة حاجتنا لهذه الفكرة بعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه، إذ باتت جميع الأمم تجد عزاءها فينا، لهذا فان فكرة الإصلاح هي فلسفتنا، وبهذا المنطق ينبغي أن نتعامل معها.


والقصد من تحويل فكرة الإصلاح إلى فلسفة، ضرورة أن نجتهد في تطوير وتعميق الأبعاد المعرفية لهذه الفكرة، وتحويلها إلى فكرة غنية وثرية بالمعاني والدلالات الخلاقة والمشعة، وحتى يكون لهذه الفكرة من الفاعلية والتأثير ما يعادل التأثير العظيم لفكرة التنوير في أوروبا القرن التاسع عشر، وهذا ما نتأمله وننتظره فعلا حاضرا ومستقبلا.


 




  •         هل يمتلك المسلمون اليوم رؤية موّحدة لأنفسهم وللعالم، وهل افتقاد مثل هذه الرؤية هو عنوان للتخلف الذي نعانيه، وللأزمات التي تتناسل في بلادنا؟

من الممكن القول إن المسلمين في ظل وضعيات الجمود والتراجع تتفتت عندهم وتغيب الرؤية الموحدة لأنفسهم وللعالم، وفي ظل وضعيات التقدم والنهوض تستعيد عندهم وتقترب الرؤية الموحدة لأنفسهم وللعالم.


وذلك لأن التراجع له منظوراته، والتقدم له منظوراته المغايرة تماما، منظورات التراجع تدفع نحو العزلة والانكفاء، وتبعث على الشعور بالضعف، والإحساس بالعجز والفشل، وعندها تتفتت وتغيب الرؤية الموحدة للذات وللعالم، في حين أن منظورات التقدم تدفع نحو الانفتاح والانطلاق، وتبعث على الشعور بالقوة، والإحساس بالإرادة والتغلب على الفشل، وعندها تدرك الأمة حاجتها إلى الاقتراب من الرؤية الموحدة لذاتها وللعالم.


ونحن اليوم ندرك بأننا بحاجة إلى رؤية موحدة نستعيد من خلالها مفهوم الأمة الجامعة لجميع المسلمين، المفهوم الذي ينبغي أن نعطيه أقصى درجات الفعالية، لمواجهة ومحاصرة نزعات الانقسام والانغلاق والصدام، النزعات التي كادت تتفشى وبصورة خطيرة في البيئات والمجتمعات العربية والإسلامية.


 




  •         ثمة علاقة ملتبسة بين السياسي والمثقف، كيف يمكن تجسير هذه العلاقة أو تجاوز محنة الصراع التاريخي بينهما؟

من جهة المبدأ، يمكن القول إن السياسي أقرب إلى منطق المصلحة والمثقف أقرب إلى منطق القيم، السياسي أميل إلى النزعة الواقعية والمثقف أميل إلى النزعة المثالية، السياسي يفضل عادة التفكير في الحاضر والمثقف يفضل عادة التفكير في المستقبل، السياسي يقدم غالبا البحث في جزئيات الأمور والمثقف يقدم غالبا البحث في كليات الأمور، السياسي ينزع نحو المهادنة والمثقف ينزع نحو النقد.


هذه المفارقات من جهة المبدأ، تلفت النظر لحاجة السياسي إلى المثقف، وحاجة المثقف إلى السياسي، وذلك لتحقيق التوازن بين منطق المصلحة ومنطق القيم، والتوازن بين النزعة الواقعية والنزعة المثالية، والتوازن في بحث الجزيئات وبحث الكليات، والتوازن بين النزوع نحو المهادنة والنزوع نحو النقد.


ومن جهة الفعل، يمكن القول إن هناك أزمة أصابت السياسي من الجهة، وأصابت المثقف من جهة أخرى، الأزمة التي فرقت وباعدت بين السياسي والمثقف، وبدلت وغيرت من صورة السياسي من جهة، ومن صورة المثقف من جهة أخرى، وأظهرت السياسي في صورة الرجل المستبد، والمتمسك بالسلطة، والباحث عنها، والذي لا هم له إلا البحث عن مصالحه ومنافعه الذاتية والخاصة، وأظهرت المثقف في صورة الرجل الضعيف، الذي من السهل الإيقاع به، وإغوائه وإغرائه بالمال أو الجاه.


ومن جهة الفعل أيضا، وبسبب الأزمة التي أصابت السياسي جعلت منه لا ينظر إلى المثقف ولا يتعامل معه إلا بوصفه تابعا له، وخاضعا لسيطرته، ومهادنا ومبجلا لمواقفه وسياساته، وصامتا عن نقده.


إلى جانب ذلك هناك السياسي المنسحب من السياسة إلى الثقافة، وهناك المثقف المنسحب من الثقافة إلى السياسة، أو العائد من السياسة إلى الثقافة.


ومن جهة العلاقة، هناك من يدعو إلى ضرورة وجود مسافة تفصل بين المثقف والسياسي، حتى يحتفظ المثقف بشخصيته المستقلة، ويحافظ على نزعته النقدية.


وفي المحصلة النهائية فإن السياسي له أكثر من صورة، ولا يمكن اختزاله في صورة واحدة، وهكذا الحال مع المثقف الذي له أيضا أكثر من صورة، ولا يمكن اختزاله في صورة واحدة.   


 




  •         ما زال سؤال الحداثة يطرق أبوابنا، البعض رفض الحداثة من حيث المبدأ وآخرون حاولوا ابتلاعها.. هل يوجد حداثة إسلامية، وهل يمكن إعادة النظر في ثنائيات العقل والنقل, والنص والمصلحة.. لولادة مثل هذه الحداثة؟

سؤال الحداثة سيظل يطرق أبوابنا دائما، ولا خشية من ذلك على الإطلاق، ونحن بحاجة إلى تذكر هذا السؤال الذي يشعرنا من جهة بالحاجة إلى النهوض والتقدم، ويلفت نظرنا من جهة ثانية إلى تلك المسافات الطويلة التي تفصلنا عن العالم، وعن التقدم في العالم، ونحن بحاجة إلى تذكر هذا السؤال أيضا، للتخفيف من حالة الاحتباس في الماضي، والاستغراق في التراث، وللتخلص من إشكاليات الجمود والتقليد، وللحد من نزعات التعصب والقطيعة والانغلاق.


والملاحظ أن الفكر الإسلامي المعاصر أخذ يتجاوز ما سمي بصدمة الحداثة، والخشية من الحداثة، وانتقل إلى طور البحث عن حداثة إسلامية، والدعوة إلى تأسيس حداثة إسلامية، كما دعا إلى ذلك الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه (روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية)، الذي أقام دعوته على أساس التفريق بين واقع الحداثة وروح الحداثة.


ومن جهتي فقد أسست إلى مقاربة أراها أنها مقاربة جديدة وفعالة هي المقاربة بين مفهوم الاجتهاد ومفهوم الحداثة، وأن مفهوم الاجتهاد في المجال الإسلامي يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، لأن مفهوم الاجتهاد من الناحية التركيبية يعبر ويتمثل العناصر الأساسية المكونة لبنية مفهوم الحداثة، وهي عناصر العلم والعقل والزمن.   


 

زر الذهاب إلى الأعلى