المجلة العربية، شهرية ثقافية، محرم 1442هـ/ سبتمبر 2020م، العدد 528

ابن رشد وجدل التنوير

تظهر صورة ابن رشد (520-595هـ/1126-1198م) في المجالين العربي والإسلامي وحتى الأوروبي بتمثلات متعددة، تتضارب فيها وجهات النظر وتتباين بطريقة لا تحدث في عالم الفكر والمعرفة إلا نادرا، ولا تنطبق إلا على نمط من الأشخاص هم أولئك الذين يصعب قراءة أثرهم ومنجزهم بصورة أحادية أو إجماعية، على شاكلة ما حدث ويحدث مع ابن رشد في هذه الأزمنة المعاصرة.


من هذه التمثلات المتعددة لصورة ابن رشد التي تضاربت فيها وجهات النظر وتباينت، صورته التنويرية وعلاقته بالتنوير، وفي هذا النطاق يمكن طرح التساؤلات الآتية: هل كان ابن رشد تنويريا؟ هل يصح ربط ابن رشد بفكر التنوير؟ هل يمثل التنوير مدخلا لقراءة ابن رشد وأثره ومنجزه المدوّن والمكتوب؟ هل يصطف ابن رشد إلى جانب أولئك الذين عرفوا بالتنوير؟ هل نحتاج اليوم إلى ابن رشد ونحن نفكر بالتنوير عربيا وإسلاميا؟


تعددت أمام هذه التساؤلات وتباينت وجهات النظر عربيا وإسلاميا ومسيحيا وغربيا، منها وجهات النظر الآتية:


أولا: هناك من ربط جازما وثابتا ابن رشد بالتنوير، وحسب هذا الرأي فإن ابن رشد يعد تنويريا رائدا كان وما زال وسيبقى متسما بهذه السمة فكرا، وبهذه الوضعية وجودا. تبنى هذا الرأي الباحث المصري الدكتور مراد وهبة الذي له سيرة مع ابن رشد مفعمة بالدفاع والمنافحة كتابة وتأليفا، داعيا لانبثاق رشدية عربية معاصرة تقارب صورة الرشدية اللاتينية التي ظهرت في أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي، وأسهمت في انبثاق حركة التنوير الأوروبية، وقد عد وهبة انبثاق الرشدية العربية شرطا لقيام حركة تنوير عربية معاصرة.


يذكر وهبة أن أولى أبحاثه عن ابن رشد ترجع إلى سنة 1977م، حيث صنف بحثا بعنوان: (ابن رشد والتنوير) قدمه لمؤتمر دولي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية، دعت إليه “جمعية بحوث الفلسفة الإسلامية والعلم الإسلامي”. واتصالا بهذا السياق أشرف وهبة في سنة 1994م على عقد المؤتمر الدولي الأول حول (ابن رشد والتنوير)، دعت إليه في القاهرة الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية، واستمر وهبة على هذا الموقف مدافعا عن تنويرية ابن رشد ومنافحا.


ثانيا: هناك من ربط ابن رشد بالتنوير لكن ليس مطلقا وإنما مقيدا بعصره في القرن الثاني عشر الميلادي، وحسب هذا الرأي فإن تنويرية ابن رشد هي تنويرية زمنية وتاريخية مقيدة بزمنها الماضي المرتد إلى العصر الإسلامي الوسيط، وليست تنويرية عابرة بين الأزمنة ممتدة إلى هذه الأزمنة المعاصرة. يعترف لهذه التنويرية الرشدية أنها كانت تنويرية متفوقة في عصرها، لكنها اليوم ليست في مستوى عصرنا، فقد تجاوزتها حركة التنوير الحديثة والمعاصرة وتفارقت معها، بل ودفعت بها إلى الوراء، وجعلتها حالة منغلقة بدائرة التراث ومنقطعة عن دائرة الحداثة.


ذهب إلى هذا الرأي جازما به وثابتا الدكتور محمد أركون (1928-2010م)، وتابعه في هذا المنحى معربه ومعرفه إلى اللغة العربية الباحث السوري الدكتور هاشم صالح. أبان أركون عن رأيه في مقالة نشرتها مجلة “مواقف” اللبنانية سنة 1989م بعنوان: (الإسلام والحداثة)، اختار فيها ابن رشد مثالا تطبيقيا كونه يمثل داخل الفكر العربي الإسلامي أحد أفضل ممثلي التيار العقلاني والفلسفي والعلمي، ولكي يبرهن من وجه آخر على محدودية العقلانية عند ابن رشد.


فقد ظهر لأركون أن ابن رشد مفكر منغلق داخل العقلانية القروسطية، وأصبح منتميا كليا إلى التاريخ، ولم يعد ممكنا استخدامه من أجل حل المشاكل والتحديات التي تواجهنا، مؤكدا أن عقلانيته لم تعد عقلانيتنا، على الرغم من أنه كان يمثل العقلانية والحداثة في زمنه وبالنسبة لعصره.


أما الدكتور هاشم صالح فقد تساءل: هل كان ابن رشد تنويريا حقا؟ جاء هذا التساؤل عنوانا لمقالة نشرتها نشرة “أفق” الصادرة في بيروت سنة 2019م، خصصها لمناقشة كتاب: (لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟) تأليف الباحث المغربي الدكتور علي بن مخلوف. في هذه المقالة ختم صالح كلامه في الأسطر الأخيرة قائلا: إن ابن رشد كان تنويريا حقا بالنسبة إلى مشايخ عصره والعصور الوسطى الإسلامية، ولكن ليس بالنسبة إلى عصرنا، لقد تجاوزته فلسفة الأنوار بسنوات ضوئية بدءا من ديكارت وسبينوزا وكانط وعشرات غيرهم.


ثالثا: هناك من ربط ابن رشد بالتنوير ليس مطلقا وإنما تبعيضيا متحددا في جانب دون جانب آخر، بمعنى أن تنويرية ابن رشد هي تنويرية بعضية، تظهر في جانب وتختفي أو تغيب في جانب آخر، فمن التفت إلى الجانب الأول تنبه لفكر التنوير عند ابن رشد، ومن التفت إلى الجانب الثاني دون سواه غاب عنه التنبه لفكر التنوير عنده.


ذهب إلى هذا الرأي الباحث المصري أشرف منصور، وأبان عنه في كتابه: (ابن رشد في مرايا الفلسفة الغربية الحديثة) الصادر سنة 2018م، وحسب رأيه أن عقلانية ابن رشد تظهر في جانب من مؤلفاته وتغيب في جانب آخر من مؤلفاته، فهي تظهر في كتابه: (تهافت التهافت) وفي شروحه الأرسطية، وتغيب في كتابيه: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، و(الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة). وهذان الكتابان الأخيران في نظر أشرف منصور هما لاسترضاء الفقهاء والعامة، يظهر فيهما ابن رشد المتخفي الذي يتنكر في صورة فقيه، ساترا مذهبه الحقيقي الذي لم يظهر إلا في شروحه الأرسطية.


رابعا: هناك من رفض كليا ربط ابن رشد بالتنوير، وقد تعددت في هذا الشأن مداخل وجهات النظر، بين من تنكر لهذه العلاقة معلنا عدم معقوليتها، وبين من فضل عدم الاقتراب من هذه العلاقة مبينا عدم صدقيتها، وبين من عكس هذه العلاقة وقلب صورتها مقدما صورة مغايرة لها. واللافت في وجهات النظر هذه أنها جاءت من كتاب وباحثين عربا ومسلمين، مسيحيين وغربيين.


ذكر مراد وهبة في تقديمه لكتاب فرح أنطون (1291-1340هـ/1874-1922م) عن “ابن رشد وفلسفته” الطبعة الصادر سنة 2012م، أنه بعد تقديم بحثه حول “ابن رشد والتنوير” في مؤتمر “جمعية بحوث الفلسفة الإسلامية والعلم الإسلامي” سنة 1977م، تحدث معه بعد نهاية المؤتمر الباحث اللبناني الأصل جورج حوراني (1913-1984م) مترجم كتاب ابن رشد (فصل المقال) إلى اللغة الإنجليزية، مبديا قلقه بسبب ربط ابن رشد بالتنوير، كما أبدى رغبة عارمة –حسب وصف وهبة- في الابتعاد عن هذا الربط.


في هذا التقديم نفسه، ذكر وهبة وجهة نظر أخرى عارضت كذلك ربط ابن رشد بالتنوير، عبر عنها المستشرق الأمريكي تشارلس بتروث الذي يعد متخصصا في تحقيق مؤلفات ابن رشد ونشرها، إذ يرى في بحث له عن ابن رشد والتنوير نشر في القاهرة سنة 1996م، أن ليس ثمة إشارة إلى التنوير في مؤلفات ابن رشد سواء الشعبية منها أو العلمية، معتبرا أن الذين هم على وعي بأهداف فلسفة العصر الوسيط يجدون مشقة في وضع ابن رشد بين المروجين للتنوير.


ومن العرب المسلمين الذين انتقدوا ابن رشد من هذه الجهة ومن جميع الجهات الأخرى، يبرز من هؤلاء ويتقدم الباحثان المصري الدكتور علي سامي النشار (1917-1980م)، والمغربي الدكتور طه عبدالرحمن. شرح الدكتور النشار وجهة نظره في كتابه: (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام) الصادر في خمسينات القرن العشرين، حيث قدم فيه نقدا مسرفا ومغاليا لابن رشد، معتبرا أنه إذا كان صاحب عقلانية، فهي في نظره إما عقلانية تابعة لأهل اليونان، أو عقلية مستعارة من المعتزلة والماتريدية.


ولا يقل الدكتور طه عبدالرحمن شدة في النقد عن سلفه النشار، وابن رشد بالنسبة إليه ما هو إلا مقلد وليس مبدعا، ويرى في كتابه الوجيز: (حوارات من أجل المستقبل) الصادر سنة 2000م، أن ليس في فلاسفة الإسلام من هو أشد منه تقليدا لفلاسفة اليونان، ولا ينحصر هذا التقليد في شروحه وتفاسيره وملخصاته وجوامعه لمؤلفات أرسطو، بل يتعداها إلى ما وضعه من مصنفات عدت عند الباحثين من التأليف الإبداعي، قاصدا بها مؤلفاته الثلاثة المشهورة: “التهافت” و”مناهج الأدلة” و”فصل المقال”، وإيغالا في النقد فقد عده واضع أصول التقليد في الفلسفة، وأبرز مشرع له، ولم يضاهه في ذلك لا سابق ولا لاحق، متيقنا أن انبعاث الأمة العربية الإسلامية لن يكون عن طريق فكر ابن رشد، ولو استنفر الرشديون عددهم وعدتهم كلها.


هذه بعض وجهات النظر التي تجادلت حول ابن رشد وعلاقته بالتنوير، والملاحظ عليها بصورة عامة أنها تفتقد إلى التوازن، بشكل دفعت ابن رشد نحو اتجاهات شتى، بين من صعد به عاليا ومن هبط به دنيا، بين من ذهب به يمينا ومن ذهب به يسارا، بين من رأى فيه حداثة ومن رأى فيه تقليدا، بين من دعا إلى استعادته ومن دعا إلى نسيانه، هكذا تباينت وجهات النظر تجاه ابن رشد وتعددت صوره، دالة على نوع من الإرباك، وكاشفة عن وجه من وجوه أزمة الفكر العربي والإسلامي المعاصر.


أما عدم التوازن في الآراء المذكورة فيظهر بهذا النحو: في الرأي الأول يظهر عدم التوازن من جهة أن ابن رشد له علاقة أكيدة بالتنوير بالنسبة إلينا في المجالين العربي والإسلامي، لكنه يمثل حالة من حالات التنوير ومحطة من محطاته، فلا هو أول من ارتبط بالتنوير، ولا هو آخر من عرف بهذه العلاقة، بمعنى أن التنوير لا يتقيد به ولا ينحصر، فمن بعده مثل ابن خلدون (732-808هـ/1332-1406م) محطة أخرى من محطات التنوير في القرن الثامن الهجري – الرابع عشر الميلادي، كما تجلت تاليا محطات التنوير في رجلات النهضة والإصلاح متمثلة في كل من: رفاعة الطهطاوي (1216-1290هـ/1801-1873م)، جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1838-1897م)، محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م)، عبدالرحمن الكواكبي (1270-1320هـ/1854-1902م)، الأمر الذي يعني أننا بحاجة إلى استحضار جميع هذه المحطات المشعة بالتنوير، لا أن نقيد التنوير بابن رشد وننحصر عليه، بشكل قد يحدث اختلالا في التوازن.


ويظهر عدم التوازن في الرأي الثاني من جهة حصر تنويرية ابن رشد بالماضي وقطع علاقتها بحاضرنا وعصرنا، متخلين عنها ومفضلين عليها حركة الأنوار الأوروبية المظفرة، علما أن فلسفة ابن رشد قد ألهمت حركة الأنوار الأوروبية ما يزيد على أربعة قرون ممتدة من القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن السادس عشر، وظلت حاضرة كذلك إلى ما بعد هذا الزمن، وهي فترة طويلة زمنا، وتثير الدهشة فكرا، وتكشف عن علامات قوية تميزت بها فلسفة ابن رشد مكنتها من أن تكون مؤثرة بهذا المستوى وبهذا الامتداد، فليس من المنطقي قطع العلاقة مع حالة ابن رشد واعتبارها من الماضي المدفون، فهذا مظهر من مظاهر اختلال التوازن.


وبالنسبة إلى الرأي الثالث، فاختلال التوازن يظهر عليه واضحا، كونه اتسم بانتقائية تبعيضية شطرت ابن رشد إلى شطرين، تنويري في جانب وغير تنويري في جانب آخر، وفككته إلى حالتين ما بين خفاء وظهور، وما بين غياب وحضور، وبهذه الطريقة ظهر لنا ابن رشد في صورتين، صورة المتخفي التي تُغيب عقلانيته وصورة المتظاهر التي تُظهر عقلانيته، هذه انتقائية تبعيضية ازدواجية لا معنى لها ولا توازن، فابن رشد إما أن يكون تنويريا وعقلانيا أو لا يكون، لأن التنويرية هي حالة لا تقبل التجزئة أو التفكيك أو التبعيض، وهكذا الحال مع العقلانية.


أما الرأي الرابع، ففيه من التنكر والتحامل ما يجعله فاقدا للتوازن، ظهر التنكر في رأي حوراني وبتروث، والتحامل ظهر في رأي النشار وطه عبدالرحمن. في الجهة الأولى يفترض أن الغربيين هم أكثر إدراكا وتقديرا لفلسفة ابن رشد التنويرية، باعتبار أن هذه الفلسفة نشطت في مجتمعاتهم وازدهرت، وتأثرت بها فلسفة أنوارهم وانتعشت، أخذت منها وتغذت، وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن التنكر لها، ويكفي أن نشير إلى ما ذكره علي بن مخلوف في كتابه: (لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟)، على لسان المفكر الفرنسي المعاصر آلان دوليبيرا الذي عد ابن رشد “الأب الروحي لأوروبا”. لذا فليس من التوازن التنكر لفلسفة ابن رشد.


وفي الجهة الثانية، يمكن الاختلاف مع ابن رشد ونقده، لكن التحامل عليه بهذا الشكل الذي ظهر في كلام النشار وطه عبدالرحمن، ونقلنا منه قدرا ضئيلا، فإنه لا يعد متوازنا على الإطلاق. وهذا ما يفسر فشل فلسفة ابن رشد في العالم الإسلامي وازدهارها في العالم الأوروبي.

زر الذهاب إلى الأعلى