المجلة العربية، شهرية ثقافية، شوال 1441هـ/ يونيو2020م، العدد 525

لماذا أعلن المفكرون الغربيون الثورة على هيجل؟

حدد المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (1929-1984م) موقف عصره كله من هيجل وفلسفته في نص بليغ وشهير قائلا: (إن عصرنا كله سواء من خلال المنطق أو من خلال الإبستمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيجل)، أراد فوكو من هذا النص أن يكشف عن وجهة الفلسفة في عصره كله، قاصدا بالطبع المجال الأوروبي والغربي حصرا وتحديدا.


تميز هذا النص بقوة المعنى، واكتسب قوة الحضور والتداول، وبات نصا حاضرا لا غنى عنه في كل حديث يتعلق بهيجل ونظامه الفلسفي، ومثل لبعض عربا ومسلمين وأوروبيين مدخلا لقراءة هيجل وفلسفته، وتغليب المنحى النقدي وترجيحه في هذا النوع من القراءات الفكرية والفلسفية، باعتبار أن فوكو وضع نفسه وعصره كله مذاهب وأشخاصا في مواجهة هيجل، سعيا للإفلات من فلسفته ونظامه الفلسفي الموصوف بالمثالية والإطلاقية والشمولية والنسقية.


هذا النص الذي عرف به فوكو وطالت شهرته كثيرا، وظل يتردد على الألسنة كما لو أنه من المحفوظات، كان قد سبقه إليه من ضفة أخرى المفكر المصري زكي نجيب محمود (1322-1414هـ/1905-1993م) في نص يرجع إلى سنة 1964م، متقدما زمنا على نص فوكو الذي يرجع إلى مطلع سبعينات القرن العشرين.


دوّن زكي نجيب محمود في هذا النص قائلا: (ميدان الفلسفة المعاصرة تتقاسمه معسكرات رئيسة أربعة، تختلف فيما بينها اختلافات بعيدة المدى في الفروع، وتتحد كلها في الأصول العميقة، ومن هذه الأصول العميقة المشتركة تتكون ثقافة عصرنا في اللباب والصميم، وما هذه الأصول المشتركة التي نجد فيها مفتاح ثقافة عصرنا، إلا الثورة بأشكال مختلفة على فلسفة كانت لها السيادة من قبل، وهي فلسفة هيجل).


مع هذا السبق، وهذا التقارب بين النصين، إلا أن نص زكي نجيب محمود ليس فقط لم ينل شهرة مقارنة بنص فوكو، بل عد نصا غائبا ومجهولا، لم يأت على ذكره حتى الكتاب العرب الذين اعتنوا بفوكو وخطابه الفكري، ونشروا عنه أطروحات وتأليفات، يأتي في مقدمتهم الباحثان الموريتاني عبدالله ولد أباه في أطروحته التي نشرها سنة 1994م بعنوان: (التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو)، والجزائري الزواوي بغورة في أطروحته التي نشرها سنة 2000م بعنوان: (مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو).


من هنا نتساءل: لماذا أعلن المفكرون الغربيون الثورة على هيجل؟ الثورة التي صورها فوكو أنها مثلت العصر كله، وصورها زكي نجيب محمود أنها مثلت ثقافة القرن العشرين؟


يفهم من هذه التوصيفات أن الثورة المعلنة على هيجل لم تكن ثورة عادية أو عابرة، ولا ثورة ضحلة أو هشة، ولا ثورة قصيرة أو محدودة، إنما كانت ثورة ممتدة وضخمة، التقت عليها مذاهب وعلوم وفلسفات كبرى، نادرا ما اجتمعت مع بعضها. وظلت هذه الثورة مستمرة زمنا تخطت القرن العشرين إلى ما بعده، وعبرت متنقلة ما بين مجتمعات أوروبية وغربية عدة، الأمر الذي يقتضي إمعان النظر وتعميق المعرفة وزيادة التبصر في هذه الثورة الموصوفة بثورة العصر كله!


هذه القضية فحصا وتحليلا يمكن النظر إليها في اتجاهين: الأول يتعلق بنسق عام، والثاني يتعلق بنسق خاص. النسق العام يتصل بطبيعة الفكر الغربي الذي يتسم من جهة بحس التجاوز والتفكير في وضعية المابعديات، ويتسم من جهة ثانية بالدينامية والنقدية والتراكمية، ويمقت من جهة ثالثة التبعية والتقليد، وسيرة الفكر الغربي الطويلة تكشف عن هذ الملامح والسمات وتبرزها.


بحس التجاوز والتفكير في المابعديات أصبح الفكر الغربي قادرا على تخطي جميع الفلسفات والمذاهب الفلسفية التي ظهرت في ساحته مهما كانت بنيتها وقوتها وجاذبيتها، وما جرى مع هيجل ومذهبه الفلسفي لم يكن بعيدا عن تأثيرات هذا الحس القوي المحفز نحو التجاوز وبلوغ وضعية المابعديات التي بات يأنس بها.


ويتقوى هذا المنحى ويتأكد حين يتسم الفكر بالدينامية والنقدية والتراكمية التي نراها ظاهرة في الفكر الغربي ومتجلية في وجوده التاريخي الحديث والمعاصر. فخلال القرون الأربعة الأخيرة، وبفضل انطلاق حضارته كان الفكر الغربي هو الأكثر دينامية مقارنة بالمنظومات الفكرية الكبرى في العالم، وهو الذي ابتكر أبرز المناهج النقدية الحديثة التي وسمته بالنقدية، وزودته بفاعلية نقدية ظل يمارسها على نفسه، ويطبقها على فلسفاته ومذاهبه ومدارسه بمشاربها وأقسامها كافة.


وفي ظل التراكمية المتعاظمة التي حققها الفكر الغربي أصبح مندفعا بقوة نحو طلب التجدد والتجديد. ومن يمقت التبعية والتقليد لا تظل فيه المذاهب الفلسفية على وضعية ثابتة وراسخة وجامدة، خصوصا مع فلسفة ترجع زمنا إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ونعني بها فلسفة هيجل.


وبشأن النسق الخاص، ونقصد به ما يتصل تحديدا بهيجل وطبيعة فلسفته الموسومة في الأدبيات الفلسفية الغربية بالمثالية والإطلاقية والشمولية والنسقية، هذه السمات على وزنها وقوتها وجودتها إلا أنها حرضت بعض المفكرين الغربيين على الثورة عليها مندفعين نحو تبني مواقف واتجاهات مغايرة لها، ومتعارضة معها، ومتباعدة عنها.


فهناك من المفكرين من وجد في مثالية هيجل ما يدفع نحو الانقلاب عليها، وذلك بعد أن بالغت في مثاليتها، ودفعت بالفلسفة الألمانية إلى ذروة المثالية، هذه الوضعية أثارت بشدة معارضة كارل ماركس (1818-1883م) فيلسوف الماركسية الذي اتجه نحو قلب فلسفة هيجل من المثالية إلى المادية، متبنيا الجدلية المادية في مقابل الجدلية المثالية لهيجل، ومنحازا لنظرية صراع الطبقات في عالم الإنسان والمجتمع في مقابل نظرية صراع الأفكار في عالم الوجود والتاريخ عند هيجل، مطلقا مقولته الشهيرة: (وجدت هيجل واقفا على رأسه فاعدته واقفا طبيعيا على قدميه).


وهناك من وجد في إطلاقية فلسفة هيجل المتعالية ما يدفع نحو الانقلاب عليها، لأنها صورت الوجود كله باعتباره تجليا لما أطلق عليه هيجل الروح المطلق الذي يمثل الغاية النهائية لكل شيء، وباعتباره الأكمل والأسمى والأعلى تنتهي إليه موجودات العالم جميعا بما في ذلك الدين والأخلاق والفنون والعلوم.


هذه الإطلاقية المتعالية الشديدة والجازمة، وجد فيها بعض المفكرين طمسا وتغييبا لفردية الإنسان ووجوده الحقيقي الفاعل في التاريخ والعالم. وهذا ما رفضته وثارت عليه الفلسفة الوجودية التي قدمت الوجود على الماهية في النظر إلى الإنسان، معتبرة أن الوجود يسبق الماهية، ومنتصرة للإنسان ووجوده الفاعل والمتحقق بإرادته الحقيقية. ويعد المفكر الدنماركي سورين كيركجارد (1813-1855) في طليعة المعبرين عن هذا المنحى، وأبرز الداعمين له، ومن أوائل الثائرين على هيجل وفلسفته.


وهناك من وجد في شمولية فلسفة هيجل ونسقيتها المحكمة ما يدفع كذلك نحو الثورة عليها، فقد جاهد هيجل لأن يطبع فلسفته بنسقية شمولية تلتقي فيها وتندمج علوما ومعارف شتى، معتبرا أن الفلسفة ما لم تشكل نسقا فإنها لن تكون نتاجا علميا.


هذه النسقية المغالية تقابلت معها وتفارقت فلسفة دعت إلى تفكيك المركب، وتجزئة الكلي، وفصل المدمج، ومحاولة الوصول إلى عناصر الشيء ضبطا وتحديدا عبر طريقة تتخذ من التحليل منهجا، عرفت هذه الفلسفة بالفلسفة التحليلية، واشتهرت في بريطانيا، وكان من أبرز أعلامها برتراند رسل (1872-1970م)، الذي قال عنه زكي نجيب محمود في تقديمه لكتاب رسل (فلسفتي كيف تطورت): إنه قد برع في دقة التحليل براعة قل أن نجد لها نظيرا في تاريخ الفكر الفلسفي كله.


هذه لعلها أبرز الاتجاهات الفلسفية التي تفارقت مع هيجل في المجال الغربي الحديث والمعاصر، وقد أوقفت تمدد فلسفته، وقلصت هيمنتها التي امتدت في نظر الكاتب الأمريكي وليم رايت (1877-1956م) صاحب كتاب: (تاريخ الفلسفة الحديثة)، امتدت إلى العقد الثاني من القرن العشرين.


أما من جهة هيجل ومساره الفلسفي، فقد كانت له رؤية أخرى عمل جاهدا لتحقيقها، حيث كان معنيا بأن يصنع مجدا عظيما للفلسفة بصورة عامة، وللفلسفة الألمانية بصورة خاصة، ساعيا لتأسيس عصر جديد للفلسفة، أراد منه أن يكون العصر الثاني بعد العصر اليوناني الأول، معتبرا أن في تاريخ الفلسفة بوجه عام لا بد من التمييز بين مرحلتين أو بين نوعين من الفلسفة هما: الفلسفة اليونانية والفلسفة الجرمانية، مقدرا أن الشعوب الأوروبية بوصفها منتمية إلى عالم الفكر يجب أن تسمى جرمانية، لأنها في مجملها ذات ثقافة جرمانية، متوسعا في شرح هذا الرأي وتأكيده في كتابه: (محاضرات في تاريخ الفلسفة).


هذه لمحة فكرية فيها قبس من سيرة الفكر الغربي الذي ازدهر فيه الفكر وانتعش بفضل ثوراته الفكرية المتتابعة، وبفضل مدارسه الفلسفية المتعددة.

زر الذهاب إلى الأعلى