أفق، لبنان، دورية شهرية، تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، 1 نوفمبر 2025م، العدد 170

كانط ومسألة العلاقة بين العقل والإيمان

نقلت الباحثة السويسريّة جان هِرش (1910 – 2000م) في كتابها (الدّهشة الفلسفية.. تاريخ للفلسفة)، نصَّا وجيزًا، لكنه بالغ الدلالة، نسبته إلى الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط (1724 – 1804م)، حدَّد فيه بوجه عام ما أراد أن يصل إليه في شأن العلاقة بين العقل والإيمان ضبطًا لفلسفته، إذ يقول: (كان عليَّ أن أرسم حدود العقل حتى أفسح المجال إلى الإيمان).
لا شك في بلاغة هذا النص الوجيز، وأهمية التوقَّف عنده تبصَّرًا وتدقيقًا، لأنه يمثّل أحد مداخل النَّظر إلى فلسفة كانط التي تفحص فيها العقل والإيمان معًا، وكان ساعيًا إلى رفع التناقض بينهما، وذلك من خلال تحديد مجال معيَّن لكل منهما، منجيًا بهذه الطريقة أن يكون العقل في خصومة مع الإيمان أو طاردًا له أو بديلًا عنه، وهكذا بالنسبة إلى الإيمان وعلاقته بالعقل. وقد اعتبر كانط أنَّه بهذه الخطوة قد حقَّق نجاحًا حاسمًا، أطاح من خلاله بنظام فكري قديم كان متهالكًا، وشيَّد مكانه نظامًا فكريًا جديدًا.
في هذه العلاقة رأى كانط أنّ القضية تبدأ من العقل فاتّجه إلى فحصه، متَّخذًا من النقد أداة للتبصّر، باذلًا جهدًا كبيرًا في تفحّص العقل بوصفه ملكة المعرفة، وظهر هذا الجهد متجليًا كمًّا وكيفًا، في كتابه المهمّ (نقد العقل الخالص) الصادر سنة 1781م. مدشنًا عبره مشروعه الفلسفي النقدي الجديد، الذي تحدّدت صفته وتعَّين اتجاهه فيما عرف في تاريخ الفلسفية الأوروبية بالفلسفة النقدية، التي ارتكزت على ثنائية العقل والنقد، العقل موضوعًا، والنقد أداة، والبحث عن الحقيقة وبلوغ اليقين وجهة.
وحين تطرَّق الباحث الأمريكي ول ديورانت (1885 – 1981م) في كتابه (قصّة الفلسفة)، إلى هذا الكتاب، ذكر أنه استغرق من كانط تأليفًا وتنقيحًا خمسة عشر عامًا، واصفا له أنّه قد أحدث به انقلابًا مفزعًا في عالم الفلسفة لم يحدثه أي كتاب آخر. ونقل قولًا منسوبًا إلى المفكر الألماني آرثر شوبنهاور (1788 – 1860م) عدّ فيه كتاب كانط بأنه أعظم الكتب في الأدب الألماني وأكثرها أهمية.
أراد كانط من هذا الكتاب أن يرسم حدود العقل، موضحًا أين يبدأ دوره في عالم المعرفة كشفًا وتحليلًا، وأين ينتهي، مقيدًا نشاطه بحدود صارمة لا ينبغي أن يتجاوزها أو يتخطاها، ومحددًا إطاره في نطاق معرفة الظواهر في ظاهرها لا في ذاتها، وفي نطاق عالم الطبيعة لا فيما وراءها. وبهذا المسار يكون كانط قد سالك طريقًا وسطيًّا، أو انتخب إلى نفسه طريقًا جديدًا، فلم يبالغ في دور العقل وإعطائه أكبر من حجمه على طريقة مسلك أصحاب المذهب العقلي الذين يرون في العقل مفتاح كل شيء، ولا هو همَّش العقل وأعطاه دورًا ثانويًا على طريقة مسلك أصحاب المذهب الحسي الذين يرون في الخبرة الحسية مفتاح كل شيء.
بهذا العمل رسم كانط حدود العقل، لكنه لم يفتح المجال للإيمان، بل أغلقه هنا وسد الطريق إليه، واتجه ناقدًا البراهين الثلاثة الشهيرة الدالة على إثبات وجود الله وناقضًا لها، والتي ظلت تتوارث في فضاء الفكر الأوروبي وتتجدد بقصد ترسيخ الإيمان. وهي المعروفة بالدليل الوجودي القائم على مبدأ وجود الكامل الإلهي، والدليل الكوني القائم على مبدأ العلية، والدليل الطبيعي القائم على مبدأ التناسق والغائية في عالم الطبيعة.
من ناحية الافتراض، كان المتوقع من كانط أن يعمل على تدعيم هذه البراهين الثلاثة ويقويها ترسيخًا للإيمان الديني، وسدًا لذريعة الانقلاب عليه، لا أن ينقدها من أساسها ويقوضها. فقد عُرف عنه شخصًا وسيرة بسلوكه الإيماني، ونشأ في أسرة ملتزمة دينيًا، وكان والداه من أنصار طائفة دينية مسيحية بروتستانتية تعرف بالتقوائية، وأصبح أخوه الأكبر قسيسًا، وقد تأثر مبكرا بوالدته التي رعته ورسخت فيه الإيمان القلبي. مع هذه السيرة وأثرها وتأثيرها الوجداني والقلبي، إلا أن كانط وبعدما بلغ مرحلته النقدية، وجد عدم كفاية هذه البراهين الثلاثة وعدها قديمة، ورأى أنها بحاجة إلى إعادة بناء جديد.
وبعدما أنجز كانط رسم حدود العقل في كتابه (نقد العقل الخالص)، رأى أن المهمة الفلسفية لم تكتمل، فاتجه نحو خطوة أخرى، كان لا بد من القيام بها، أراد منها فسح المجال للإيمان، فبحسب تصوره لم يكن كافيًا رسم حدود العقل من دون فسح المجال للإيمان. وتحددت هذه الخطوة في إنجاز عمل كبير أيضا تمثَّل في كتاب (نقد العقل العملي) الصادر سنة 1788م، الذي بذل فيه جهدًا لا يقل كمًا وكيفًا عن جهده المبذول في كتابه السابق. وتقصد من عنوانه أن يكون متصلًا به، ومتممًا له، وليس منفصلًا عنه أو منقطعًا.
بهذا العمل يكون كانط قد فصل عن قصد الإيمان عن العقل النظري، وربطه بالعقل العملي، مؤسسًا بهذه الخطوة طريقًا جديدًا للإيمان يتصل بالعقل ويمر من طريق العقل العملي وليس النظري، موثقًا العلاقة بين الإيمان والأخلاق. سعيًا من كانط لأن يكون هذا النهج خيارًا بديلًا وجديدًا عن النهج التقليدي القديم الذي عمل على هدمه وتقويضه في كتابه (نقد العقل الخالص)، أملًا منه في تجديد الإيمان في الشعور والوجدان.
وهذا يعني أن كانط لو اكتفى بكتاب (نقد العقل الخالص)، أو تعثر في إنجاز كتاب (نقد العقل العملي)، أو حالت الظروف لأي سبب كان عجزًا أو مرضًا أو وفاة عن إنجاز أو إكمال الكتاب الثاني، لعُدّ المشروع الفلسفي لكانط ناقصًا، ولتمت قراءته بصورة مبتورة، ولجرى التعامل معه بطريقة غير صائبة، ولأصبحت فلسفة كانط والفلسفة الكانطية عمومًا لها وضعية فلسفية أخرى مختلفة تمامًا عن الوضعية التي كانت عليها في عصرها وما بعده ممتدة إلى عصرنا الراهن.
ولاحقًا وجد نقاد وباحثون أوروبيون مفارقة في صورة كانط بين الكتابين، فقد لاحظ هؤلاء أن كانط في كتابه (نقد العقل الخالص) قدَّم عن نفسه صورة معينة، وفي كتابه (نقد العقل العملي) قدَّم صورة أخرى، وفتح إمكانية المقارنة والمقاربة بين هذين العملين، وهاتين الصورتين، فثمة من فارق بين هذين العملين، وفصل بين هاتين الصورتين.
وأشارت جان هِرش في كتابها (الدّهشة الفلسفية) إلى هذا المفارقة، موضحة أن ثمة من وجد أن كانط في (نقد العقل الخالص) قد أبان عن عقلية حديثة تثير الإعجاب بالمعنى العلمي، لكنه في (نقد العقل العملي) قد سقط في ضرب من اللاهوت الأخلاقي، وبلور فيه أفكارًا تسلي النفس، وكان على خلافها من قبل.
ومن جهة أخرى، انتقدت هِرش محاولة العديد من المفكرين الاستلهام من كانط بشكل أحادي، إمّا من (نقد العقل الخالص) أو من (نقد العقل العملي)، جاعلين أحدهما ينفي الآخر، معتبرة أننا لا يمكن أن نفهم أحدهما فهمًا حقًا في انفصال عن الآخر، فكل واحد منهما يعطي غيره حمولته الفلسفية الأصيلة، ومبينة أن الفصل بينهما يجعلنا نتحدث عن مفكر آخر غير كانط، مضيفة لهما الكتاب الثالث لكانط (نقد ملكة الحكم).
أما السؤال الذي يمكن طرحه في هذا الشأن: هل إن كانط كان بحاجة فعلا إلى هدم اللاهوت القديم وتحديدًا نظام البراهين الثلاثة الدالة على وجود الله من أجل تأسيس لاهوت جديد؟ وهل نجح في هذه المهمة؟
تعدّدت أمام هذا السؤال وتباينت التحليلات الأوروبية وغير الأوروبية، ومن أكثرها مفارقة ما أشار إليه الدكتور محمد إقبال (1294 – 1357هـ/ 1877 – 1938م) في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، مستحسنًا موقف كانط وممتدحًا له، وذلك استنادًا إلى سياق فلسفي أوضحه إقبال ومفاده أن المذهب العقلي حينما ظهر في ألمانيا في القرن الثامن عشر كان لأول عهده حليفًا للدين، ولكن سرعان ما تبين أن جانب العقيدة من الدين لا يمكن البرهنة عليه حتما، فكانت الخشية من أن تمحى العقيدة الدينية من سجل المقدسات، وتزامن ذلك مع ظهور مذهب المنفعة في فلسفة الأخلاق، وبذلك مكّن المذهب العقلي من سيادة الإلحاد. وجاء كانط وكشف في كتابه (نقد العقل الخالص) عن قصور العقل الإنساني، فهدَّم ما بناه أصحاب المذهب العقلي من قبل، سدًا لطريق الإلحاد. وقد استحسن إقبال هذا الموقف من كانط، مسجلًا انطباعًا عاليًا عنه، قائلا: (وصدق عليه القول أنّه كان من أجلّ نعم الله على وطنه).
بغض النظر عن جانب الموافقة أو المخالفة لهذا الرأي، مع ذلك فإن كانط لم يكن مضطرًا إلى الخطوة التي قام بها في تقويض نظام البراهين الثلاثة وهدمها، وكان بإمكانه المحافظة عليها، والعمل على إعادة بنائها من جديد وفق المباني الفلسفية التي توصل إليها، وبقي معتقدًا بها ومنافحًا عنها. ولا شك أن هذا الطريق يعد أكثر سلامة من الطريق الذي اختاره وسلكه كانط، لأن هذه البراهين ونظامها هي أكثر وضوحًا، وأشد بيانًا، وأرسخ سيرة ووجودًا من النظام الذي جاء به كانط المعروف بعسره وغموضه وتعقيده.
كما أن هذا النظام الكانطي ظلّ معرضًا لتضارب التفسيرات وتناقضها، وهذا ما لاحظه وأبان عنه بصورة كبيرة اللاهوتي الأمريكي راينهولد نيبور (1892 – 1971م)، ونقل رأيه ديورانت في كتابه (قصة الفلسفة) قائلًا: (لقد أعلن المتدينون العقائديون أنّ نقد العقل الخالص محاولة شاك يحاول بها تقويض يقين المعرفة، وقال أصحاب الشك إن هذا الكتاب ادعاء وقح يحاول بناء صورة جديدة من اليقين في العقيدة على انقاض الأنظمة الماضية، وقال المعتقدون بما فوق الطبيعة إنه حيلة مدبرة خبيثة لمحو أسس الدين التاريخية واقامة المذهب الطبيعي بلا جدال، وقال الطبيعيون إنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان التي تحتضر، وقال الماديون إنه مثالية تحاول نقض حقيقة المادة، وقال الروحانيون إنه تحديد لا مبرر له للحقيقة كلها وحصرها في العالم المادي).
إضافة إلى أن النظام الكانطي لم يستطع أن يحلّ مكان نظام البراهين الثلاثة لا في عصر كانط ولا بعده. لكن يسجل له أنه تخطى هذه البراهين على شهرتها ورسوخها وسيرتها الطويلة، وسلك طريقًا جديدًا يضاف إلى هذه البراهين ولا ينسخها أو يكون بديلا عنها.
وفي هذه الخطوة، كان كانط مدفوعًا بحس أصالة الفيلسوف الذي يتخطى النظم الفكرية القديمة، سعيًا إلى تشييد نظام فكري جديد، نظامًا أراده أن يكون متسمًا باليقين لا بالشك، وبالشمولية لا بالتجزيئية، وبالتكامل لا بالنقص. وظلّ يكمل أعماله ومؤلفاته سدًا للنقص، وقد توالت في هذا السياق حلقات مؤلفاته ابتداء من (نقد العقل الخالص) إلى آخر مؤلفاته، مرسخًا بها صورة الفيلسوف الجاد.

زر الذهاب إلى الأعلى