10 - 4 - 2024م

زكي الميلاد من التجديد إلى التنوير

بهذا العنوان نشر أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط المصرية، الدكتور محمود محمد علي، مقالة في صحيفة المثقف الإلكترونية، الصادرة عن مؤسسة المثقف في سيدني بأستراليا، تطرق فيها الباحث إلى بعض رؤى وأطروحات الأستاذ زكي الميلاد، عائدًا إلى كتاباته وتأليفاته. نشرت المقالة بتاريخ الاثنين 8 أبريل 2024م، وهذا نص المقالة:
زكي الميلاد من التجديد إلى التنوير
الدكتور محمود محمد علي
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط، بمصر
عرفت الأستاذ زكي الميلاد منذ كان يجيئ لمكتبة الإسكندرية مرارا وتكرارا، مرة رأيته مع أستاذنا الدكتور محمد عمارة، ومرة مع صديقي الدكتور عصمت نصار، واعتقد أن الأستاذ الميلاد ليس في حاجة مني إلى أن أسلط الأضواء عليه، بل ربما هو يعاني منها، إذ يشغل الرجل مساحة من الثقافة الفلسفية المعاصرة بما يقدمه من كتب ومقالات مهمة.
واعتقد أن سؤال زكي الميلاد الأساسي كان عن “النهضة”، وهي تمثل النقطة المحورية التي دارات حولها سائر أعماله الفكرية، وهو ليس فقط باحثا عنها، وإنما مشاركا فيها، وذلك حين استخدم أبرز الدراسات التي تناولت فكر النهضة العربية من عدة جوانب مختلفة، وذلك في كتابه “عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟، الصادر عام 2016م، إذ يرى زكي الميلاد أن الحديث عن النهضة وعصرها إنما هو حاجة دائمة ومستمرة، ففيه نضجت وتبلورت قضايا وإشكاليات النهضة والإصلاح، حيث يقول: “تتأكد الحاجة إلى هذا العصر في ظل ما نلمسه اليوم من انحدار حضاري خطير”، فيعيد الباحث زكي الميلاد قراءة إشكاليات النهضة العربية، حيث قام باستعراض أبرز آراء الباحثين والمفكرين الذين قدموا دراسات وأبحاث في القرن الماضي عن فكر النهضة العربية، محاولاً استنطاق هذه الدراسات، واستخراج أبرز الأفكار والفرضيات التي ناقشتها.
كذلك من القناعات المشتركة في نظر زكي الميلاد أن الإصلاح الفكري هو العنصر الجوهري لنهضة الأمة، وانه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كل تصور للخروج من الأزمة، ومن هنا رأينا أن موضوع تجديد الفكر الإسلامي عند زكي الميلاد يعد أحد هذه الإسهامات.
لقد اهتم زكي الميلاد بإشكالية “التجديد” وذلك في كتابه “الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد”، حيث أدرك الميلاد أن المجتمعات الإنسانية تتقادم بمرور الزمن، ولذلك عمد زكي الميلاد إلى النظر للتجديد على أنه مشروعاً بذاته، ويحتاج إلى جهد علمي؛ ويرى الميلاد ضرورة توضيح أن التجديد في الفكر الإسلامي لا في الدين الإسـلامي الـذي لا يجـوز فيـه الزيـادة ولا الـنقص ولا التغييـر أو التبـديل ولا النسـخ أو التعطيـل ومـا شـابه ذلك، وأن المراد بالتجديد هو إصـلاح موقفنـا مـن الـدين.
وهـذا مـا دفـع زكي الميلاد إلى تأكيد ضرورة أن نبـرز فـي هـذا الوقـت نبـوغ الفكـر الإسـلامي وعبقريته الحضارية الفذة، إذا ما علمنا أننا على أعتاب دورة تاريخية جديدة يشــهدها العــالم اليــوم، حيــث التحــولات الكبــرى، والتقــدم الســريع علــى المستويات كافة، والتطورات تتلاحق بشكل مذهل مـن أصـغر الأمـور إلـى أكبرها، حتى بات من الصعب السيطرة عليها من جهة.
وبعد أن حدد زكي الميلاد مفهوم التجديد فـي الفكـر الإسـلامي، ينتقـل إلـى تحديد الآلية التي يتم بوسـاطتها التجديـد، وهـذه الآليـة تتمثـل فـي المـنهج المتبع في عملية تجديد الفكر الإسلامي. ويرى زكي الميلاد أن حركات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي نوعان: حركات فكرية دعوية منها حركة الشيخ محمد رشيد رضا، وحركات منهجية منها حركة الإمام الشاطبي، والفارق بينهما في النوع الثاني هو محور الحركة، أما في الأول فإن الدعوة والإصلاح هما محور الحركة.
وأما في مبحث “التجديد في الفكر الإسلامي الشيعي”، فقد ذهب زكي الميلاد إلى أن الفكر الشيعي في كل دوراته التاريخية كانت له إبداعات وتجديدات في مختلف ميادين الثقافة والعلوم، لكنه في ذات الوقت أثار بعض الإشكالات التاريخية والمنهجية والسياسية التي اعترضت هذا الفكر، أهمها اختزال الفكر الإسلامي في مدرسة واحدة هي المدرسة السنية، ومحاولة إقصاء الفكر الشيعي عن واقع الحياة الفكرية والاجتماعية عن طريق دراسات تحوي مغالطات تاريخية أو عقائدية .
وأما فيما يخص ضوابط التجديد فقد حصرها زكي الميلاد في خمسة: عدم تجاوز النص بالتأويل أو التعطيل، وعدم الإخلال بالقواعد المنهجية للتجديد، والتزام المنهج الإسلامي، ومراعاة الثوابت والمتغيرات .
وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهو كما يرى زكي الميلاد أن البحث في التجديد يؤدي إلى البحث في التنوير، وهنا رأيناه في كتاب له بعنوان: “الإسلام والمدنية.. حوارات حول الفكر الإسلامي قضاياه ومسائله وإشكالياته “، يرى أن الأسئلة الكبرى التـي تتعلـق بالتنوير، كأسـئلة الديمقراطيـة والحريـة والـدين والمـرأة، سـتظل حاضرة في ساحتنا الفكرية بوصفها اختباراً للمعرفة، ومقياسـاً للتطـور، لكـن الإجابة عنها يفترض أن تكون على الأرض وفي الميدان والتجربة لا أن تصبح مجـرد نظريات على الورق فقط؛ وفيما يتعلق بالديمقراطية يرى الميلاد أن الفكر الإسلامي في طريقه إلى التصالح مع الديمقراطية، وأن المهـم لـيس وصـول الإسلاميين إلى السلطة بل المهم وصولهم إليها عبر صناديق الانتخاب، معتقدا أن التحولات التي حدثت فـي عالمنـا العربـي خرجـت مـن رحـم الشـعوب المقهورة.
أما فيما يتعلق بواقع المرأة في المجتمعات الإسلامية، فيـرى زكي المـيلاد في كتابه ” :تجديد التفكير الديني في مسألة المرأة”، أن واقع المرأة قد تغير واختلف بصورة كبيـرة، إذ أصـبحت المـرأة اليـوم أكثـر وعياً بذاتها، وبنظرتها إلى مستقبلها، وبدأت تبحث لنفسها عن فـرص التقـدم في المجالات العامة، ولم تعد تقنع بالأدوار التقليدية والضيقة والمحـدودة، أو بتلك الوصايا الشديدة والشاملة من الرجل، بعد أن اكتسبت تعليمـاً جيـداً وتدريباً وخبرة وثقافة عالية.
أما في ما يتعلق برؤية الميلاد للدين، فإنه يرى في كتابه: “الإسلام والحداثة من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامية”، أن الدين واجه تحديات كبيرة، جعلته أمام طريقين طريـق التحـدي والبقـاء وطريق التهميش والعزلة، فقد واجه الدين في العصر القديم تحدي الفلسـفة، وواجه في العصر الوسيط تحدي العلم، وواجه في العصـر الحـديث تحـدي الحداثــة، وواجــه فــي العصــر الحــالي تحــدي العولمــة، واســتطاع أن يثبــت فاعليته، وأمام غيرها من التحديات الكبرى.
لم يكتف زكي الميلاد بذلك، بل رأيناه يسعى جاهدا إلى تأكيد قيمة الثقافة والإعلاء مـن شـأنها، وإعطاؤهـا درجـة عاليـة مـن الأولوية، والاستلهام منها والتخلق بها، واعتمادها منظوراً في التحليل والنقـد والاستشـراف، فالثقافـة هـي تلـك الطاقـة والقـوة والـروح التـي تبعـث علـى التجـدد والتقـدم والنهـوض، مـع التركيـز علـى الجـوهر الإسـلامي للثقافـة، والاهتمام بأبعاده الإنسانية والأخلاقية والحضارية.
نتيجة لذلك جاءت محاولة زكي الميلاد اقتراح مفهوم المثقف الـديني، فـي كتابه: “محنة المثقف الديني مع العصر”، الصادر عـام ٢٠٠٠م، الـذي حـاول فيه أن يلفت النظر إلى هذا المفهوم من خلال تحريكه في المجـال الفكـري والثقـافي، فـي سـعي للاقتـراب مـن مفهـوم المثقـف الـديني، الـذي يجعـل مرجعيته الفكرية من داخل الحضارة الإسلامية.
وهنا يحاول زكي الميلاد طرح مفهوم إسلامي حول “المثقف الديني”، حيث يريد أن يؤسس للمثقف الديني علـى وفـق هـذه الرؤيـة، ويحاول إيجاد تمايز أو مفارقة بين المثقف الديني والمثقف الغربـي، فيـرى أن الأول مثقف ديني بطبعه ويتخذ من الدين مرجعية فكرية له، ومـن أمثلـة هذا المثقف الكندي والفارابي وغيرهما، ممـن لهـم رأيهـم المسـتقل المعبـر عن مرجعيتهم الفكرية، أما الثاني فهو على العكس من الأول، فهو غير دينـي بطبعه، ولا صلة لـه بالـدين.
أما في كتابه: “الإسلام وحقوق الإنسان.. تطور الفكر الإسلامي المعاصر من التأصيل إلى التقنـين” فقد حاول الميلاد أن يتتبـع تطـور فكـرة حقـوق الإنسان في ساحة الفكـر الإسـلامي المعاصـر، كاشـفاً عـن طبيعـة المواقـف والأفكار، وعـن طبيعـة المسـارات والاتجاهـات، وأنمـاط تطورهـا، وصـور تعاملها مع هذه الفكرة، نقـداً وتحلـيلاً، تأصـيلاً وتقنينـاً .
وفـي هـذا الاطـار جرى حديث الميلاد عن بواعث تجدد الاهتمام بفكرة حقوق الإنسان التـي تـأخر الاهتمـام بهـا فـي سـاحة الفكـر الإسـلامي المعاصـر إلـى ثمانينيـات القـرن العشرين، وامتد هذا الحديث إلى التطور الـذي قطعـه الفكـر الإسـلامي فـي التحول والانتقال من التأصيل الفقهي والشرعي، إلى التقنين في صورة صـيغ ولوائح قانونية وتشريعية.. وللحديث بقية، حيث يكون موضوعنا المقبل عن إشكالية الحداثة لديه.
……………………….
المراجع:
1- زكي الميلاد، كتاباته المشار إليها في المتن.
2- مصطفي خليل خضير، أطروحات التجديد في الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر زكي الميلاد أنموذجا، مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة، 2018م.
3- حليمة بوكروشه، مجلة إسلامية المعرفة، العدد الحادي عشر، 1998م، مراجعة كتاب: الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، دار الصفوة، بيروت، 1994م.

زر الذهاب إلى الأعلى