مراجعة خامسة لكتاب: (تعارف الحضارات)

نشر الباحث الفلسطيني المقيم في سوريا هشام منور في مدونته الخاصة على الشبكة العالمية الانترنت, في موقع مكتوب, مراجعة لكتاب: (تعارف الحضارات) الذي أعده الأستاذ زكي الميلاد, ويتحدث عن نظريته في تعارف الحضارات, حملت المراجعة عنوان (تعارف الحضارات.. الطريق الثالث), وهذا نص المراجعة:
تعارف الحضارات.. الطريق الثالث
اتسعت دائرة الجدل والسجال وتراكم حول مقولتي (صدام الحضارات) لصموئيل هنتنغتون، و(حوار الحضارات) لروجيه غارودي على مستوى العالم. ولم ينقطع هذا السجال أو يتوقف بين ثقافات العالم وهوياته وأديانه المتعددة والمتنوعة. وفي الوقت الذي يمكن فيه اعتبار مقولة (صدام الحضارات) نظرية تفسيرية تشاؤمية لمستقبل العالم وحضاراته، فإن مقولة (حوار الحضارات) تبرز كنظرية نقدية أو علاجية لها، تستبطن المخزون الثقافي والإرث التاريخي لشعوب العالم لإنقاذه من براثن مقولة هنتنغتون وويلات حتمياتها التاريخية.
بالمقابل، تسعى مقولة (تعارف الحضارات) التي يتبناها الأستاذ (زكي الميلاد) ويبشر بها في المحافل الثقافية والأكاديمية إلى «تطوير مستويات الفهم في النظر إلى عالم الحضارات، والسعي لاكتشاف آفاق جديدة أو غائبة تساهم في تجديد العلاقات على أساس المعرفة المتبادلة، من خلال بناء جسور المعارف لإزالة كافة صور الجهل والتخلص من رواسب وإشكاليات القطيعة».
والكتاب إذ يحاول تقديم تعريف لفكرة تعارف الحضارات وبيان أصالة انتمائها إلى الفضاء المعرفي الإسلامي في مجال العلاقات بين الحضارات، فإنه ينطلق من قاعدة أن تعدد الحضارات أو انبعاث حضارات جديدة لا يفترض أن يؤدي إلى صدام بين الحضارات ولا ينبغي أن يفهم هذا التعدد أو يفسر على أساس التصادم هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه دون التعارف لا يتحقق الحوار ولا يمكن أن يتطور أو يتقدم.
يمهد (الميلاد) لكتابه بمقدمة يعرض فيها لشغفه بالأبحاث الحضارية وولعه بها منذ طفولته، ويبين إرهاصات ولادة فكرة تعارف الحضارات وتطورها ومصيرها، من خلال ما أثارته الفكرة من ردود فعل وقبول لدى عدد كبير من المفكرين والباحثين الذين ضمن أبحاثهم وكتاباتهم في مؤلفه هذا، ثم يعقب ذلك بحث (زكي الميلاد) الذي يحدد فيه ماهية فكرة تعارف الحضارات ويبين حقيقة مقولة كل من (صدام الحضارات) و(حوار الحضارات) وجذورهما الفكرية، معرجاً على تبني الأمم المتحدة لفكرة (حوار الحضارات) على خلفية اقتراح الرئيس الإيراني السابق (محمد خاتمي) لجعل سنة 2001 عام حوار الحضارات. مقدماً انتقادات لاذعة لهذه الفكرة في ظل عدم التكافؤ الحضاري القائم بين الإسلام والغرب على المستوى المادي والتقني، والذي سيفضي والحال كذلك إلى هيمنة حضارية وصراع ثقافي بدلاً من إزالة عوامله وبوادره.
ثم ينتقل إلى شرح مفهوم تعارف الحضارات ويبين استناده إلى الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». ويشير المؤلف إلى أن الخطاب في هذه الآية متوجه إلى (الناس) كافة لا إلى المسلمين فقط، مع التوطئة بالتذكير بأصل خلق الإنسان ووحدته لدى الجميع (من ذكر وأنثى)، والإقرار بالتنوع الثقافي (وجعلناكم شعوباً وقبائل) وأن الغاية منه هو تحقيق (التعارف) بين تلك الشعوب والقبائل، أي التجمعات والمجتمعات الإنسانية لا الأفراد فحسب. فمقولة تعارف الحضارات «لا تعني مجرد الاعتراف بتعدد الحضارات وتنوعها، وإنما تستند إلى ضرورة بناء وتقدم الحضارات في العالم وتأسيس الشراكة الحضارية فيما بينها وتبادل المعرفة والخبرة. والعالم ليس بحاجة إلى حضارة واحدة، وإنما إلى استنهاض الحضارات كافة»، وتعارف الحضارات هو الطريق الأولي إلى الحوار فيما بينها.
ثم يعرض (إدريس هاني) إلى الحلقة المفقودة ما قبل تعارف الحضارات، وأن الميلاد في فكرته تلك يرمي بمسؤولية فشل الحوار والتواصل بين الحضارات على كاهل الحضارات الأقوى غير المعنية بنشوء حضارات منافسة وقوية لها. ويرى إمكانية نجاح الحوار والتواصل مع حضارة الغرب ما بعد الحداثة فقط بعد أن تتجاوز مثالب مرحلة الحداثة وإشكالياتها الحضارية.
ويبين (محمد مراح) في بحثه مبررات التنظير لمقولة تعارف الحضارات وأهمية ومشروعية هذه المقولة ومرتكزاتها النظرية معرجاً على بواعثها وأهدافها ومؤيداتها الموضوعية، دون إغفال معوقات تحققها وإنجازها.
في الوقت الذي يركز فيه (طاهر عبد مسلم) على نقد الأطروحات الاستشراقية حول موضوع حوار الحضارات والتي أفضت إلى تمركز إعلامي وممارسة دعاية مضادة ضدها، محاولاً ممارسة تأصيل منهجي لمفهوم الأمة في مسألة تعارف الحضارات. فيما يبين (الكيلاني) مرتكزات هذه المقولة تاريخياً من خلال بيان شغف الرحالة العرب بالتعرف إلى أوروبا، وبيان كون التعارف سبيلاً إلى حوار الحضارات. ثم تتوالى الأبحاث والمقالات بعد ذلك لإغناء مقولة تعارف الحضارات، وبيان تأصيلها إسلامياً ومرتكزاتها المعرفية، ومحاذير تحققها ومعوقاتها.
لقد حاول الكتاب رصد السجالات والردود التي تلت طرح مقولة تعارف الحضارات لزكي الميلاد في عدد من الصحف والمجلات والندوات العلمية، وفيما بدا وكأنه تعزيز لهذه المقولة وتبن لها واعتبارها استجابة إسلامية مستمدة من القرآن الكريم على طروحات الآخر المعرفية والاستشرافية للواقع الحضاري، فإن الكتاب قد وقع في مأزق الطابع التمجيدي والوثوقي في نجاح هذه المقولة وقدرتها على تجاوز المأزق الحضاري الذي تعيشه جميع حضارات العالم في التواصل فيما بينها، دون أن يتم التطرق إلى قضية أن المعوقات التي حالت دون نجاح مقولة حوار الحضارات ذاتها لا تزال قائمة وقادرة، في الوقت نفسه، على إفساد هذه المقولة أيضاً، وان تعارف الحضارات أو حوارها لا بد أن تسبقه مقدمات نظرية تفكك التمركزات الحضارية التي تتمترس بها كل حضارة حول ذاتها، بما يمنع من تواصلها مع الحضارات الأخرى، وأن عقدة التفوق أو الدونية لدى الحضارات قد تمنع حتى من التعرف على نظيراتها بداعي عدم الحاجة أو الخوف أو الاكتفاء الذاتي، وهو ما على الباحثين والمفكرين بحثه وإيجاد سبل تجاوزه في مرحلة سابقة على تعارف الحضارات على بعضها أو حوارها فيما بينها.