مجلة الفيصل، شعبان – رمضان 1445هـ / مارس – أبريل 2024م، العددان 569 - 570

الفلسفة والناس.. هل حقا أن كل إنسان فيلسوف؟

ترددت في الكتابات الفلسفية الغربية الحديثة، وتابعتها الكتابات العربية، تلك المقولة التي تربط جميع البشر بالفلسفة، وتصور أن كل إنسان هو فيلسوف إما من جهة الطبيعة أو من جهة الدرجة. ومن ثم فإن الفلسفة ليست وقفا على الفلاسفة، وليس التفلسف حقا خاصا بهؤلاء الفلاسفة، وإنما هو حق عام للناس كافة، لا يتقيد بفئة، ولا ينحصر بزمن، ولا يتحدد بمكان، ولا يمثل امتيازا لعرق أو قوم أو سلالة من البشر.
هذه المقولة المقصودة جرت الإشارة إليها، والتعبير عنها، والتأكيد عليها، بصور متعددة من ناحية البيان، جاءت من مفكرين وأدباء ونقاد، مستندين في تحليلاتهم إلى خاصية الفكر والتفكير عند الإنسان، ونظرته إلى ذاته والحياة والعالم.
وبيانا لهذه المقولة وتثبيتا لها، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال مختارة، انتسبت إلى أشخاص لهم وزنهم الفكري والفلسفي، وهي:
القول الأول: أشار إليه الناقد الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937م)، الذي رأى أن (كل البشر فلاسفة… ولا نستطيع أن نتصور إنسانا لا يكون فيلسوفا ولا يفكر، لأن التفكير هو بالضبط خاصة الإنسان من حيث هو الإنسان).
القول الثاني: أشار إليه المفكر الألماني كارل ياسبرز (1883 – 1969م) في كتابه: (مدخل إلى الفلسفة)، إذ رأى أن كل إنسان فيلسوف، لأن الفلسفة تتناول المطلق الذي يتشخص في الحياة الواقعية، ولكن ليس من اليسير على الإطلاق أن نضع قبضتنا على هذا المعنى بمتابعة التأمل.
القول الثالث: ذكره الكاتب الأمريكي فروست في مقدمة كتابه: (التعاليم الأساسية للفلاسفة العظماء)، إذ رأى أن كل إنسان فلاحا كان أم من رجال المال، كاتبا أم قائدا، حاكما أم محكوما، فهو فيلسوف بمعنى الكلمة، لكون الإنسان بما هو إنسان قد وهب دماغا راقيا، وجهازا عصبيا، فلا بد له من التفكير، والتفكير مطية الفلسفة.
إلى جانب هذه الأقوال الثلاثة، أشار إلى هذه المقولة أيضا الكاتب الأمريكي رابوبرت في كتابه: (مبادئ الفلسفة)، وكذا الكاتب الأمريكي ول ديورانت في كتابه: (صروح الفلسفة) المترجم إلى العربية بعنوان: (مباهج الفلسفة). وفي الكتابات العربية أشار إليها الكاتب المصري أحمد فؤاد الأهواني في كتابه: (معاني الفلسفة)، إلى جانب آخرين.
أمام هذه المقولة فحصا وتبصرا، يمكن تسجيل بعض المفارقات المتعاكسة، وهي:
المفارقة الأولى: كان يفترض من هذه المقولة التي ربطت جميع البشر بالفلسفة، وصورت كل إنسان بوصفه فيلسوفا، أن يكون من أقرب نتائجها وأوضحها ظهورا، ما يتعلق بهيئة الفلاسفة عددا ووجودا. لأننا أمام مقدمة ونتيجة، فهل بينهما تطابق وتوافق أم تغاير وتخالف؟ وهل إذا صحت المقدمة في هذه الحالة صحت معها النتيجة، استنادا إلى القواعد المنطقية؟
المقدمة تقول: إن كل إنسان هو فيلسوف سواء من ناحية الطبيعة أو من ناحية الدرجة أو في بعض لحظات حياته، وبناء على صحة هذه المقدمة، لا بد أن يكون عدد الفلاسفة من ناحية العدد كبيرا في جميع الأزمنة، وجميع الأمكنة، وجميع المجتمعات! وذلك بحكم الطبيعة القوية والاستعداد الذاتي الذي يربط الإنسان بالفلسفة.
لكن الذي نراه فعليا خلاف ذلك تماما، فعدد الفلاسفة ليس قليلا فحسب وإنما ضئيل جدا، ويكاد يكون بحكم النادر، نلمس ذلك في جميع الأزمنة، وجميع الأمكنة، وجميع المجتمعات. الظاهرة التي ترتقي إلى درجة الحقيقة بلا خلاف عليها ولا نزاع، لشدة ظهورها ليس عند الفلاسفة خاصة، وإنما عند الناس عامة.
المفارقة الثانية: بحسب المقولة المذكورة، لا بد أن يترتب عليها نوع من القرب بين الناس والفلسفة، يصل إلى درجة الألفة والتساكن والتعايش. فما دامت الفلسفة بهذا الالتصاق بالناس، وتعدهم فلاسفة إما من ناحية الطبيعة أو من ناحية الدرجة، وتصور أن كل إنسان فيلسوف بدرجة أو أخرى، الأمر الذي يقتضي قربا من الناس تجاه الفلسفة، لأن القرب يولد قربا غالبا، أو لا أقل يولد استعدادا قويا للقرب. ومن ثم فإن قرب الفلسفة من الناس، يفترض أن يولد قربا أو استعدادا للقرب من الناس تجاه الفلسفة.
لكن الذي نراه فعليا غير ذلك تماما، فلا نلمس قربا من الناس تجاه الفلسفة، بل نجد ابتعادا يصل إلى درجة التنافر والنفور، وما زال الناس عموما يحملون صورة سلبية أو غير واضحة عن الفلسفة، وهذا ما يعرفه الناس عن أنفسهم، وما يعرفه كذلك أهل الفلسفة عن الناس.
ومثل هذا الانطباع السلبي تجاه الفلسفة، عبر عنه بوضوح كبير سنة 1948م، الكاتب المصري الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1908 – 1970م) في مقدمة كتابه: (معاني الفلسفة)، وأوضحه قائلا: (كان التفلسف سمة الخارجين عن جادة الطريق، حتى إذا شذ أحد عن الأفكار الدارجة، أو طلع برأي جديد قيل له: لا تتفلسف، كأن الفلسفة رذيلة من الرذائل، يتهم بها صاحب التفكير المعوج المنحرف، فرهبها الناس، وانصرفوا عنها، وظلت حبيسة الكتب، بعيدة عن الأذهان، غريبة عن القلوب).
المفارقة الثالثة: استنادا إلى المقولة السالفة، لا بد أن تكون الفلسفة واضحة ومفهومة عند الناس أو عند شريحة كبيرة من الناس، ما دامت تصور أن كل الناس فلاسفة، ولا يوجد إنسان يخلو بصورة من الصور من فعل التفلسف. الأمر الذي يعني أن الفلسفة ليست شيئا غريبا عن الناس أو منقطعة عنهم أو تنتمي إلى عالم غير عالمهم القريب لهم، وإنما هي متصاحبة معهم، تظهر لهم بلا توقف في حسهم التفكيري، ولا تغيب عن فعلهم التفلسفي الذي لا يفارق الفكر عند كل إنسان.
والسؤال: هل أصبحت الفلسفة بتأثير هذه المقولة، وبعد هذه السنوات الممتدة والطويلة واضحة عند الناس أو مفهومة عند شريحة كبيرة منهم؟ أم إن واقع الحال يخبرنا بغير ذلك وعلى خلافة تماما؟ وما نعرفه أن الفلسفة ما زالت في الانطباع العام عند من يتردد على ألسنتهم بنوع من البساطة والعفوية، أن الفلسفة أشبه بعالم يكتنفه الغموض والإبهام والتعقيد والتعصيب، وبحسب تصوير كارل ياسبرز في كتابه: (مدخل إلى الفلسفة) أن الفلسفة (بلغت من الصعوبة حدا يجعل دراستها تبدو مهمة ميؤوسا منها).
كشفت هذه المفارقات الثلاث عن أن هذه المقولة المذكورة، بحاجة إلى فحص وتدقيق بقصد التثبت منها، خصوصا بعدما تكررت في الأدب الفلسفي الحديث، بشكل جاز لنا أن نعطيها صفة المقولة، ونتعامل معها بهذا الاعتبار.
وفي تقويم هذه المقولة، يمكن القول: إنها أقرب إلى أن تكون مقولة بيانية أكثر من كونها مقولة برهانية، بمعنى أنها مقولة من صنع اللغة والبيان اللغوي، ولا تستند إلى حقائق فعلية وخارجية تصلح أن تكون براهين عليها. ومن دون هذه البراهين الفعلية تخرج هذه المقولة من نطاق المقولات البرهانية، وتحسب على نطاق المقولات البيانية، والفلسفة قائمة على البرهان وليست على البيان، وأنها نجحت في ناحية البرهان، وفشلت في ناحية البيان، مع أصابها من تعقيد وتصعيب على مستوى اللغة والبيان.

زر الذهاب إلى الأعلى