أفق، لبنان، دورية شهرية، تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، 1 نوفمبر 2023م، العدد 146

الذاتية والفلسفة.. مفارقة بين بدوي وديكارت

دوَّن الباحث المصري الدكتور عبدالرحمن بدوي (1335 – 1423هـ/ 1917 – 2002م) سنة 1940م، مقدمة مثيرة للجدل صدَّر بها كتاب: (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية)، الذي ضم دراسات لعدد من المستشرقين وصفهم بدوي بالكبار، قام بجمعها وترجمتها من اللغتين الألمانية والإيطالية، وعد هذا الكتاب لاحقا من التأليفات المهمة في موضوعه، منتسبا إلى حقل الإسلاميات الاستشراقية.
في هذه المقدمة فارق الدكتور بدوي بين ما سماه روح الحضارة الإسلامية وروح الحضارة اليونانية، مقدرا التنافر بينهما والتباين لدرجة تصل في نظره حد التناقض، مستكشفا منه خصائص روح الحضارة الإسلامية، متفهما في ضوئه ما وصفه بالصراع العنيف الذي قام بين كلا الروحين، ناقدا روح الحضارة الإسلامية، وممتدحا روح الحضارة اليونانية.
انطلاقا من هذا التفارق رأى بدوي أن الروح اليونانية تمتاز بالذاتية، أي الشعور بالذات الفردية بكيانها واستقلالها عن غيرها من الذوات، وأن ذاتيتها في وضع أفقي إزاء الذوات الأخرى، حتى لو كانت هذه الذوات آلهة. بينما الروح الإسلامية في نظر البدوي تنكر الذاتية أشد الإنكار، لأنها تفني الذات في كل ليست الذوات المختلفة من أجزاء تكونه، فهو كل يعلو على الذوات كلها، وليست هذه الذوات الأخرى إلا من آثاره ومن خلقه يسيرها كما يشاء، ويفعل بها ما يريد.
بناء على هذا الرأي وترتبا لأثره، اعتقد بدوي أن إنكار الذاتية يتناقض مع إيجاد المذاهب الفلسفية، لأن المذهب الفلسفي في نظره، ليس إلا تعبيرا عن الذات في موقفها إزاء الطبيعة الخارجية، أو إزاء الذوات الأخرى التي تستقل بنفسها عنها، وتؤكد كيانها بإزائها. ومن هنا كان اختلاف المذاهب الفلسفية اختلافا يعده بدوي من طبيعة الفلسفة نفسها، التي هي في جوهرها تنم عن الذاتية، بمعنى أنها تقوم على التفكير الحر، والعقل المستقل غير الخاضع لأي أمر آخر غير نفسه وطبيعته.
ويضيف بدوي متمما رأيه، معتبرا أن الروح التي تشعر بفنائها في غيرها، وعدم استقلالها بنفسها، وعدم استطاعتها الاعتماد على قواها الذاتية، فإنها لا تستطيع أن تتصور الأفكار إلا على صورة الإجماع متمثلا في كلمة القوة العليا التي تفنى فيها، وتخضع لها كل الخضوع، بوصفها مخلوقة لها، وصادرة عنها، ومن ثم فالنشاط الروحي يجب أن يدور من حولها، والبحث كله يجب أن يقصر موضوعه عليها.
وما يريد بدوي أن يقرره مستندا إلى هذه المفارقة بين الروحين اليوناني والإسلامي، أن الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية، لهذا لم يقدر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية، وتنفذ إلى لبابها، ولم يكن عند واحد من المشتغلين بالفلسفة اليونانية من المسلمين روح فلسفية بالمعنى الصحيح، وإلا لهضموا هذه الفلسفة وتمثلوها، واندفعوا إلى الإنتاج الحقيقي فيها، وأوجدوا فلسفة جديدة.
توسعت في بيان هذه الرأي، متقصدا لكونه رأيا حساسا ومثيرا من جهة، وكونه رأيا مقلوبا ومنقلبا من جهة أخرى. فبدل أن يجد بدوي نفسه قريبا من روح حضارته الإسلامية، متمسكا بهذا الروح ومدافعا عنه، إذا به يظهر على غير هذا الموقف، وكأنه ينتمي إلى ثقافة غير ثقافته، وتاريخ غير تاريخه، وحضارة غير حضارته، متخليا عن روح حضارته، متصلا بروح حضارة غيره، في مفارقة لا تخلو من غرابة واغتراب.
في الانطباع العام، وجدت أن هذا الرأي في جوهره وصميمه هو رأي استشراقي خالص، له علامات الاستشراق وإشاراته، متجليا بروحه ولغته وخطابه، لا يتفارق في شيء مبنى ومعنى مع ما يكتبه المستشرقون. فقد دوَّنه بدوي بلسان حالهم، كما لو أنه واحد منهم، منتسبا لسيرتهم، متقنا أدبهم، متفهما صنعتهم، مستحسنا القرب منهم، والاتصال بهم، والتناغم معهم.
من جانب آخر، يعلم بدوي قبل غيره أن الحضارة الإسلامية هي التي أسهمت في إحياء التراث اليوناني، وحفظته، وأعادت إليه الحياة، وتواصلت معه، وجددت فيه، وأضافت عليه، وضربت مثلا رائعا في العلاقة مع التراث الآخر المغاير في الدين والثقافة والتاريخ، وقدمت به أنموذجا هو الأرقى من نوعه في تاريخ الفكر الإنساني قديما وحديثا.
ولولا هذا الجهد العظيم والخلاق لكان التراث اليوناني، إما نسيا منسيا، لا أحد يتذكره أو يتحدث عنه أو يرجع إليه، وإما لكانت له وضعية أخرى، لا تقارن كليا بالوضعية التي أصبح عليها، منتقلا من عصور ما قبل التاريخ الميلادي إلى ما بعده، عابرا بين الأزمنة البعيدة، متخطيا الأزمنة القديمة التي ينتسب إليها، ممتدا إلى الأزمنة الوسيطة وما بعدها. وهذا ما يقر به الأوروبيون أنفسهم، مستشرقين ومؤرخين وأدباء، ومنهم من يرى في هذا الجهد الفضل الوحيد أو الأساسي الذي يذكر للحضارة الإسلامية منتقصين من قدرها ومجحفين. فهل بعد هذا كله يصح القول إن روح الحضارة الإسلامية ينكر الذاتية!
هذا عن المفارقة الداخلية، أما المفارقة الخارجية، فقد جاءت من فيلسوف الذاتية نفسه، نعني به الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت (1596 – 1650م) الذي يعد من أسبق المفكرين والفلاسفة في الأزمنة الأوروبية الحديثة طرحا لفكرة الذاتية، متجلية في مقولته فائقة الشهرة: (أنا أفكر إذن أنا موجود)، التي أعلن عنها في القسم الرابع من كتابه: (مقال في المنهج) الصادر سنة 1637م، سالكا بهذه المقولة طريقا للانتقال من وضعية الشك إلى وضعية اليقين، متلمسا فيها الوثاقة والثبات، متخذا منها مطمئنا مبدأ أولا للفلسفة التي كان يتحراها.
بدأت الفلسفة عند ديكارت من “الأنا الذاتية” التي قادته من الشك إلى اليقين، متبصرا بحاسة الحدس، متأملا في أحوال النفس، متوقفا عند ظواهر التفكر والشك، متثبتا من وجود الذات، مقدرا أن التفكر دليل على وجود الذات، مكونا فلسفة قوامها ثنائية الذات والوجود، معتبرا أن الفكر يقود إلى الذات، والذات تقود إلى الوجود، الفكر علامة على الذات، والذات علامة على الوجود.
لم تنته فلسفة ديكارت عند هذا الحد، ولم تكتمل بهذا النسق من العلاقة بين الذات والوجود، فعندما تيقن وجود الذات، أدرك ديكارت متبصرا مرة أخرى، أن الشك يوحي بالشعور الدال على نقص الذات، ويتولد من هذا الشعور تصور الكمال في النفس، ومن ثم فإن الذات ليست تامة الكمال، متسائلا عن مصدر هذا التصور؟ متبينا أن المعرفة كمال أكبر من الشك، متفكرا في شيء أكمل منه، متيقنا أن ذلك يجب أن يكون ذا طبيعة هي في الواقع أكمل، مقدرا أنه غير قادر على استمداد هذه الفكرة من نفسه، وأنها لا بد أن تكون قد ألقيت إليه من كائن أكثر كمالا منه، له من نفسه كل الكمالات التي يمكن تصورها، مريدا بهذا الكائن الأكمل بكلمة واحدة جازمة وثابتة هو الله.
المدهش في فلسفة ديكارت يكمن في هذا الانتقال من إثبات الذات إلى إثبات وجود الله، لم يكتف بإثبات الذات مؤطرا فلسفته بسياجها وحدودها وأفقها، وكان بإمكانه ذلك ملتزما بهذا الاختيار ومنحصرا عليه، وستظل فلسفته محافظة على توهجها، معتصمة بركنها الوثيق الذي هو الذات. مع ذلك تخطى ديكارت هذا الجانب وفاء لفلسفته، متجها من عالم الذات السفلي إلى عالم الله العلوي، بحثا عن كمال الذات، وتثبيتا لوجودها، وتوثيقا لعلاقتها بالعالم الخارجي، جاعلا الميتافيزيقا أصلا وأساسا للمعرفة والفلسفة، مصورا أن الفلسفة شجرة جذرها الميتافيزيقا، وجذعها الطبيعة، وفروعها ثلاثة: الميكانيكا والطب والأخلاق.
ومن ديكارت بدأت فكرة الذاتية محطتها البارزة في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث، ومن بعده تطورت هذه الفكرة واتسعت متفرعة إلى أبعاد متعددة، تتصل بذاتية ديكارت وتتقاطع معها تارة، وتتفارق عنها وتتباعد تارة أخرى.
وبهذا نكون أمام مفارقة شديدة التباعد بين فكرة الذاتية عند عبدالرحمن بدوي التي تقطع العلاقة مع الكائن الأعلى، وتهدمها مع الله سبحانه، وبين فكرة الذاتية عند ديكارت التي تربط العلاقة مع الله وتثبتها.
ولا أدري إن كان بدوي ملتفتا في وقته لرأي ديكارت أم لا! ولا أعلم إذا خطر في باله آنذاك مثل هذا التباعد الشديد، وأنه يقف متفارقا مع أبي الفلسفة الأوروبية الحديثة ديكارت الذي يعده الفرنسيون مفخرة الثقافة الفرنسية، وينتمي إلى البلد الذي تعلق به بدوي مهاجرا إليه، متوطنا فيه، منجذبا إلى مفكريه وفلاسفته، متعقبا أثرهم.
وجه الغرابة في هذه المفارقة أنها حدثت بطريقة متعاكسة، فبدوي الذي ينتسب مكانا إلى أفق الثقافة والحضارة الإسلاميتين، كان يفترض فيه أن يكون قريبا من ربط العلاقة بين فكرة الذاتية مع الخالق الأعلى، وديكارت الذي ينتسب مكانا إلى أفق الثقافة والحضارة الأوروبيتين، كان يفترض فيه أن يكون قريبا من فك العلاقة بين فكرة الذاتية والخالق الأعلى.
خصوصا وأن ديكارت قد عايش اضطهاد الكنيسة الدينية وتعرض لمتاعبها، وعاصر محاكمة العالم الإيطالي غاليلو (1564 – 1642م)، واضطر لمغادرة بلده متجها نحو هولندا، وجاء في زمن انقلبت فيه الثقافة الأوروبية على المؤسسة الدينية، واندفعت بقوة نحو الصدام معها والانفصال عنها، مع ذلك بقي ديكارت متوازنا في هذه العلاقة، مقدما فلسفة ذاتية مرتكزة على برهان الكمال الإلهي.

زر الذهاب إلى الأعلى