هل كان إقبال برجسونيا؟
وجد بعض الكتاب والباحثين عربا وباكستانيين وإيرانيين وأفارقة وأوروبيين صلة بين الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال (1294 – 1357هـ/ 1877 – 1938م) صاحب الفلسفة الذاتية، والفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859 – 1941م) صاحب الفلسفة الحيوية، ناظرين إلى هذه الصلة من طرف واحد هو إقبال الذي حضر في خطابه الفكري وتردد اسم برجسون وفلسفته ومقولاته، وتحديدا في محاضراته الست أو السبع التي ألقاها إقبال في الهند ما بين سنتي (1928 – 1929م)، وجمعت لاحقا في كتاب صدر باللغة الإنجليزية مطلع ثلاثينات القرن العشرين، وعرف في المجال العربي بعنوان: (تجديد التفكير الديني في الإسلام).
هذه الصلة بين هذين الفيلسوفين تحدث عنها هؤلاء الكتاب والباحثون بصور متعددة ظهر عليها قدر من الاختلاف في ملامحها البيانية والشعورية. وبيانا لهذا الأمر وتوثيقا له، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال تنتمي إلى ثلاثة مجالات عربية وإيرانية وأوروبية، هي:
أولا: في المجال العربي أشار إلى هذه الصلة الباحث اللبناني الدكتور ماجد فخري (1923 – 2021م) متحدثا عنها في كتابه: (تاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1970م، متطرقا إليها في موردين، المورد الأول: جاء حين شبه الدكتور فخري من ناحية الجوهر محاولة إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني) بمحاولة الكندي وابن رشد في التوفيق بين نظرة اليونان الفلسفية إلى الكون ونظرة الإسلام الدينية إليه، ومفرقا بينهما من ناحية المقولات، معتبرا أن الكندي وابن رشد استخدما مقولات مستمدة من أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، بينما إقبال استخدم مقولات مستمدة من هيجل وهوايتهد وبرجسون.
المورد الثاني: جاء حين رأى فخري أن إقبالا عند تحليله العام للثقافة الإسلامية ولمفهوم الوجود في الإسلام، كثيرا ما يستشف في قضايا إسلامية تقليدية مفاهيم هيجلية أو برجسونية بحتة.
ثانيا: في المجال الإيراني أشار إلى هذه الصلة الباحث داريوش شايغان (1935 – 2018م) متحدثا عنها في كتابه: (النفس المبتورة.. هاجس الغرب في مجتمعاتنا) الصادر في ترجمته العربية سنة 1991م، ناقدا طريقة إقبال في التوفيق بين القرآن والتقدم، متهكما منه قائلا عنه: إنه (المتشبع من برجسون ونيتشه يقوم ببهلوانيات فكرية واسعة لكي يوفق بين التقدم والقرآن).
ثالثا: في المجال الأوروبي أشار إلى هذه الصلة الأديب الألماني هرمان هيسه (1877 – 1962م) متطرقا إليها في كلمة افتتاحية نشرتها مجلة (فكر وفن) الألمانية، وجاءت بمناسبة صدور أول ترجمة أنجزتها المستشرقة الألمانية اللامعة آن ماري شيميل (1922 – 2003م) لأحد مؤلفات إقبال باللغة الألمانية، متحدثا عن الأحياز الروحية التي ينتمي إليها إقبال، وهي في نظر هيسه ثلاثة أحياز روحية، الحيز الثالث هو حيز الفكر الغربي، معتبرا أن إقبالا واقع تحت تأثير الفلسفة الغربية ومشكلاتها المعقدة، قرأ وفهم برجسون ونيتشه، وظل يقودنا في ممرات لولبية ترتفع شيئا فشيئا داخل مناطق عالمه الخاص، وأصبح فيلسوفا نظريا، ومن ثم لم يعد ينتمي إلى أتباع هيجل وبرجسون.
على ضوء هذه الإشارات إلى جانب إشارات أخرى عديدة، هل يمكن القول: إن إقبالا كان برجسونيا أو مثَّل برجسونية إسلامية بإدراك منه أو من دون إدراك؟ أين يلتقي إقبال مع برجسون وأين يفترق؟
هذا السؤال كان ضمن نسق من التساؤلات النقدية كنت قد أثرتها متحدثا في مؤتمر دولي علمي حول إقبال عقد في العاصمة المغربية الرباط سنة 2015م، أردت منها الدفع بتغيير طريقة التعامل مع إقبال وفكره، والانتقال من التعامل التبجيلي الساكن والجامد إلى التعامل النقدي الفعال، ناظرا إلى أن إقبالا ليس بحاجة إلى تبجيل بعد كل هذا التبجيل الذي أحاط به، وإنما بحاجة إلى نقد من أجل إحيائه من جديد.
وقبل مناقشة هذه القضية، لا بد من الإشارة إلى أن إقبالا كان قد جمعه لقاء في باريس مع برجسون مطلع ثلاثينات القرن العشرين، وذكر هذا اللقاء الأديب المصري عبدالوهاب عزام (1894 – 1959م) في كتابه: (محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره)، شارحا أجواء هذا اللقاء قائلا: إن برجسون استقبل إقبال وهو على فراش المرض, ودام اللقاء بينهما زهاء الساعتين، تخلله حوار فلسفي تناول مسائل فلسفية مهمة, وتطرقا إلى مفهوم الزمان وفلسفته في الإسلام, وفي أثناء النقاش ذكر إقبال الحديث النبوي “لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر” فلما سمع برجسون الحديث وثب من كرسيه مستغربا الأمر.
أمام هذه القضية فحصا وتبصرا، يمكن تسجيل الملاحظات والتحليلات الآتية:
أولا: من الممكن القول إن إقبالا وجد اقترابا من برجسون بتأثير دافعين، الأول له طابع فلسفي وجداني، والثاني له طابع نقدي. بشأن الدافع الأول اتجه برجسون فلسفيا نحو الوجدان، متوغلا في التجربة الشعورية، متخذا من الحدس سبيلا لاستظهار الإدراكات الباطنية، وسعيا لاكتساب بصيرة روحية، متفارقا بهذه الفلسفة عن باقي المذاهب الفلسفية الأخرى، خصوصا المذاهب العلمية والعقلية التي كان لها في عصره قوة وسطوة وزدهارا.
هذا المنحى الوجداني بوجه عام، كان إقبال يتناغم معه بحكم تجربته الدينية وتربيته الصوفية، ساعيا لتأكيده في خطابه الفكري، مبرزا قيمته، باذلا جهدا للتأسيس له في كتابه المركزي (تجديد التفكير الديني)، الذي أراد منه إقامة الموازنة بين المسلكين الوجداني والعقلي، مدافعا من جهة عن المسلك الوجداني الذي شهد تقلصا في الفلسفات الأوروبية المعاصرة، ومدافعا من جهة أخرى عن المسلك العقلاني الذي شهد تقلصا في ساحة المسلمين المعاصرين.
وبشأن الدافع الثاني، اتخذ برجسون موقفا نقديا قويا تجاه النزعات المادية والعقلية المتصاعدة بقوة في عصره، متفارقا عنها، ومتجادلا معها، ومتشككا فيها، واضعا نفسه في مسلك مغاير لها، مقدما خطابا فكريا أراد منه أن يكون متفردا به في مقابل تلك النزعات والمذاهب المادية والعلمية والعقلية.
وعن هذه الناحية النقدية، رأى الباحث الأمريكي ول ديورانت (1885-1981م) في كتابه: (قصة الفلسفة)، أن أعظم ما في برجسون هو هجومه على النزعة المادية الآلية، متوافقا معه في الذهاب إلى الحدِّ من تطرف المذهب العقلي الذي أسرف في الاعتداد بالعقل إسرافا كبيرا، ومختلفا معه في وضع البصيرة الباطنية مكان العقل.
هذا المنحى النقدي المتجه إلى الفلسفة الأوروبية، القادم من داخلها، والمتركز على النزعات المادية والعقلية، هو ما أراد إقبال كذلك تأكيده في خطابه الفكري بوصفه ناقدا للثقافة الأوروبية من جهة، وراغبا من جهة أخرى في فتح المجال أمام تعزيز الرياضة الباطنية التي يرى فيها الهدف الأسمى للدين، وساعيا من جهة ثالثة إلى تنبيه الجيل المسلم الحديث بهذا الإدراك في طريقة التعامل مع الفكر الحديث والمعارف المعاصرة.
ثانيا: حضر برجسون اسما ونصا وفلسفة في الخطاب الفكري والفلسفي لإقبال وقد أعطاه صفة الفيلسوف الفرنسي المعروف، وهو الاسم الثاني الذي ورد ذكره في كتابه: (تجديد التفكير الديني)، من بين أسماء الفلاسفة الأوروبيين القدماء والمعاصرين الذين تزايد حضورهم وتزاحم بصورة كبيرة، وسبقه بالذكر الفيلسوف الإنجليزي الفرد نورث هوايتهد (1861 – 1947م) الذي خصه إقبال بلقب الأستاذ تقديرا له لكونه كان أستاذا له في بريطانيا، ونادرا ما استخدم إقبال هذا الوصف في حق الآخرين الذين أتى على ذكرهم وما أكثرهم.
هذا الحضور لبرجسون في محاضرات إقبال لم يكن على صورة واحدة، وإنما كان على صور متعددة، تارة مستندا إلى أقواله متوثقا بها، وقد ظهر ذلك متجليا في عدة حالات منها: عند حديثه عن الفكر والبداهة، فبعد أن تتبع إقبال هذه القضية، ختم كلامه معطيا رأي برجسون صفة الحق، قائلا: وفي الحق أن البداهة ليس إلا ضربا عاليا من التفكير كما يقول برجسون.
وتارة مبينا لفلسفته عارضا لها وموضحا، فعند حديثه عن إشكالية المكان والزمان، رأى إقبال أنهما في رأي برجسون ليسا إلا اعتبارين عقليين للحركة، مقدرا أنه لا يستطيع عرض حجة برجسون في هذا الشأن من دون تفصيل القول حول فلسفته الميتافيزيقة عن الحياة، لأن حجته بحذافيرها تقوم عليها. وهنا تمثل برجسون حضوره الأوسع في محاضرات إقبال، وتحديدا في المحاضرة الثانية التي حملت عنوان: (البرهان الفلسفي على ظهور التجربة الدينية).
وتارة ثالثة استحضر إقبال برجسون مناقشا لآرائه، مختلفا معه في حالات، ومخطئا له في حالات أخرى، وكاشفا عن قصوره ومبرزا من كان سابقا عليه في حالات ثالثة.
ومن حالات الاختلاف مع برجسون، حين رأى إقبال أن التيار الحيوي الذي نادى به برجسون ينتهي إلى ثنائية من الإرادة والفكر, لا يمكن التغلب عليها، ومرد هذا الأمر إلى أن برجسون ينظر إلى العقل نظرة جزئية, فالعقل في رأيه قوة تسلك الأشياء في الحيز, وهو يتكيف بالمادة وحدها, ولا يستخدم إلا مقولات آلية. ولكن الفكر في نظر إقبال له حركة أعمق, ويبلغ في أصالته مبلغ الحياة، وفي الحياة الشعورية تسري الحياة في الفكر, ويسري الفكر في الحياة, وهما يؤلفان معا وحدة, فالفكر في حقيقته إذن هو الحياة عينها.
ومن حالات التخطئة، ما ذكره إقبال عند حديثه عن الزمان والديمومة والغائية، مجازفا – حسب قوله – معلنا خطأ برجسون، شارحا رأيه قائلا: (فقد أدى بنا التفسير الدقيق لتعاقب الزمان كما يتجلى في أنفسنا إلى فكرة عن الحقيقة القصوى هي أنها ديمومة بحتة يتداخل فيها الفكر والوجود والغاية لتؤلف جميعا وحدة متكاملة. ولا نستطيع إدراك هذه الوحدة إلا من حيث هي وحدة نفس متحققة الوجود، محيطة بكل شيء، هي الينبوع الأول لكل حياة فردية ولكل فكر فردي. ولقد أجازف فأقول: إن خطأ برجسون إنما نشأ عن اعتبار الزمان البحت سابقا على النفس التي تستند إليها وحدها الديمومة البحتة).
ومن حالات القصور، ما أشار إليه إقبال عند حديثه عن الحياة الشعورية، معتبرا أن هناك قصورا في تحليل برجسون لهذه الحياة الشعورية, لأنه ينظر إليها باعتبار أنها الماضي يعيش في الحاضر ويؤثر فيه, ويغفل عن أن وحدة الشعور لها أيضا ناحية نظر إلى المستقبل، ومن ثم فإن الماضي والمستقبل يؤثر كلاهما في حالة الشعور الحاضرة, وليس المستقبل غير محدد بالمرة كما يتضح من تحليل برجسون لحياتنا الشعورية.
ومن حالات السبق على برجسون، ما أورده إقبال عند حديثه عن ابن خلدون ونظرته للتاريخ، مقدرا طرافة طريقته في إدراك حركة التغير، وما ينطوي عليه التاريخ بوصفه حركة مستمرة في الزمان فهو حركة مبدعة صحيحة وليس حركة قُدرت خطواتها من قبل. هذه الطريقة في تصور الزمان أباحث لإقبال لأن يعد ابن خلدون سابقا على برجسون في هذا المضمار.
بهذا يتكشف لنا أن علاقة إقبال الفكرية مع برجسون لم تكن على صورة واحدة متحدة ومتطابقة، وإنما كانت على صور متعددة متباينة وغير متماثلة. فلا يمكن حمل إقبال على صورة أحادية وإهمال باقي الصور الأخرى، ومن ثم فهو لا ينحصر على الصورة الأولى والقول إنه ظل يستند إلى مقولات برجسون ونظريته، ولا ينحصر أيضا على الصورة الثانية والقول إنه ظل شارحا لبرجسون وفلسفته، كما لا ينحصر كذلك على الصورة الثالثة والقول إنه ظل مختلفا مع برجسون وفلسفته أو مخطئا له فحسب. وعليه فإن إقبال ظهر متجليا بهذه الصور المتعددة، ولا يمكن فهم علاقته ببرجسون إلا بهذه الصور المتعددة، وليس بصورة أحادية.
ثالثا: أما بالنسبة إلى الأقوال السابقة التي تحدث عنها كل من: ماجد فخري وداريوش شايغان وهرمان هيسه إلى جانب آخرين أيضا، فقد جاءت هذه الأقوال عابرة ومرسلة من دون إسناد لا بنصوص ولا بوقائع تؤكدها وتكون دالة عليها، فهي أشبه بانطباعات ذاتية تخص أصحابها، أو أنها مجرد تقديرات عامة غير فاحصة، أو أنها نقولات ظلت تتردد من دون التثبت منها، لكنها بالتأكيد لا ترتقي إلى مستوى الأحكام المبرهن عليها بالدلائل والبينات العلمية.
ولعل أكثر من اعتنى بهذه القضية من المعاصرين بحثا وتنقيبا هو الباحث السنغالي الدكتور سليمان بشير ديان الذي تنبه لهذه القضية، وأثارت دهشته، فتحفز نحو الاقتراب منها، والبحث عنها، والتنقيب فيها, حدث ذلك نتيجة تواصله المعرفي مع الفلسفتين الفرنسية والإسلامية، تواصله مع الفلسفة الفرنسية عرفه بفيلسوف فرنسا الشهير برجسون الحائز على جائزة نوبل في الآداب سنة 1928م، وتواصله مع الفلسفة الإسلامية عرفه بفيلسوف باكستان الشهير إقبال أحد أبرز الداعين لتجديد الفكر الديني في العصر الحديث.
أبان الدكتور ديان عن رؤيته تجاه هذه القضية في كتابين وجيزين، الكتاب الأول حمل عنوان: (الإسلام والمجتمع المفتوح.. الإخلاص والحركة في فكر محمد إقبال) صدر سنة 2001م، والكتاب الثاني حمل عنوان: (برجسون ما بعد الكولونيالي.. الفلسفة الحيوية لدى ليبولد سيدار سنغور ومحمد إقبال) صدر في طبعته العربية سنة 2018م. في هذين الكتابين حاول ديان تأكيد المكانة الفكرية والفلسفية لإقبال، والكشف عن تقاطعاته الفكرية والفلسفية مع برجسون، أين يلتقي معه، وأين يأخذ منه.
وما ننتهي إليه أن إقبالا قد استفاد فعلا من برجسون ووجد اقترابا منه، لكنه كان ملتفتا إلى ذاتيته ولم يكن تابعا لبرجسون أو واقعا تحت تأثيره، منطلقا بهذا الحس الذاتي من أمرين: الأمر الأول: أنه أراد قاصدا مناظرة الفكر الأوروبي والفلاسفة الأوروبيين المعاصرين من موقعه الذاتي الإسلامي المتعالي على التبعية والتقليد.
والأمر الثاني: أن إقبالا أراد مخاطبة الجيل الحديث من المسلمين الذي كان يهوى الأفكار المعاصرة والتعلق بالفكر الحديث، مقدما لهم خطابا عصريا قاصدا به حمايتهم من التبعية والتقليد للفكر الأوروبي والفلسفات الأوروبية المعاصرة.
يضاف إلى ذلك أن هذا المسلك يلتقي والتصور الفلسفي العام عند إقبال الذي أراد بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة. لذا فإن إقبال كان إقباليا ولم يكن برجسونيا!