المجلة العربية، شهرية ثقافية، رجب 1444هـ/ فبراير 2023م، العدد 557

هايدغر ومقولة العلم لا يفكر

أطلق المفكر الألماني مارتن هايدغر (1889 – 1976م) في كتابه: (في الشيء الذي يخص التفكير) الصادر في خمسينات القرن العشرين مقولة مثيرة رأى فيها أن (العلم لا يفكر)، مفارقا بها بين العلم والفلسفة، سالبا عن العلم خاصية التفكير في ذاته، رابطا هذه الخاصية بالفلسفة، مؤكدا حاجة العلم إلى الفلسفة من هذه الجهة، ومعتبرا العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه ومن دون أن يعلم ينشد إلى ذلك الإطار، فإذا أراد العلم أن يفكر في ذاته متسائلا مثلا: ما الفيزياء؟ فإنه يتجه طوعا نحو الفلسفة، طلبا للتفكير، وسدا لهذا النقص، واستجابة لهذه الرغبة. وبذلك يكون هايدغر قد ثبت حقيقة حاجة العلم إلى الفلسفة.
هذه المقولة ما إن نطق بها هايدغر في محاضرة ضمت إلى الكتاب السالف الذكر، حتى وجد أنها خلقت كثيرا من الضجيج على حد وصفه، مع أنه لم يكن قاصدا من هذه المقولة لا معاتبة العلم ولا مؤاخذته، وإنما أراد تحديد بنية العلم الداخلية، والكشف عن خصائص ماهية العلم، وكيف أنه يتوقف عما تفكر فيه الفلسفة من جهة، ويهمل من جهة أخرى ما يستدعي أن يكون محط تفكير.
وقد اشتهر هايدغر بهذه المقولة محركا بها جدلا ونقاشا بقي مستمرا ولم يتوقف، كما اشتهر فلاسفة آخرون ومفكرون ونقاد قبله وبعده بمقولات أخرى، فمن بعده اشتهر الناقد الفرنسي رولان بارت (1915 – 1980م) بمقولة (موت المؤلف)، واشتهر المفكر الألماني يورغن هابرماس بمقولة (الحداثة مشروع لم يكتمل)، واشتهر المفكر الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما بمقولة (نهاية التاريخ).. وهكذا آخرون.
ومع اشتهار هذه المقولة وما خلفته من ضجيج حسب وصف هايدغر نفسه، فقد تباينت حولها وجهات النظر وتعددت، كانت بهذه الحالة وما زالت ممتدة إلى هذه الأزمنة المعاصرة. فهناك من توقف مندهشا ومتسائلا: كيف يصدر مثل هذا الحكم الموصوف بالغريب والقاسي تجاه العلم من مفكر في وزن هايدغر، وهناك من أظهر تحفظا واستياء، خصوصا من أولئك المنتمين إلى دائرة أهل العلم الذين وجدوا أنفسهم الطرف المستهدف، إلى جانب من برر لها، متفقا معها ومصطفا إلى جنبها، أو صامتا عنها مكتفيا بالشرح والتفسير والتأويل.
أمام هذه المقولة الصادمة، وبعد الفحص والنظر يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولا: قد يفهم من هذه المقولة صدقا أو توظيفا أنها جاءت في سياق إعادة الاعتبار إلى الفلسفة بعد ما تعرضت إلى ضربة قوية من العلم، فقد أخذ العلم يتطور بوتيرة أسرع من الفلسفة متجها منذ القرن السابع عشر الميلادي إلى الانفصال عن الفلسفة والسعي نحو الإحلال مكانها، وقلب صورة الموقف متحولا من الموقف القديم الذي يربط العلم والعلوم بالفلسفة إلى الموقف الحديث الذي يربط الفلسفة بالعلم، بناء على خلفية ترى أن العلوم إذا كانت في الأزمنة القديمة بحاجة إلى الفلسفة، فإن الفلسفة في الأزمنة الحديثة ستكون تحديدا بحاجة إلى العلم إذا أرادت البقاء والمحافظة على وجودها، ذاتا ومهمة.
هذا الموقف تعزز في القرن التاسع عشر بتأثير من عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت (1798 – 1857م) الذي وضع قانونا ثابتا وحتميا لتطور الفكر البشري عرف في الدراسات الفلسفية والاجتماعية بقانون الحالات الثلاث، متحددا بهذا التعاقب التطوري: الحالة اللاهوتية في الطور الأول، ثم الحالة الميتافيزيقية في الطور الثاني، ثم الحالة العلمية في الطور الثالث التي يسود فيها العلم وتبطل معها الميتافيزيقا الفلسفية. ومن ثم فإن مآل الفلسفة هو الاندماح شيئا فشيئا في العلم، والخضوع إليه وعدم مخالفته. وكان لهذا القانون تأثيراته القوية في عصره وما بعده، مدعما بشخص أوجست كونت الذي رأى فيه الأوروبيون أنه أحدث بدراسته الاجتماعية فتحا عظيما لعلم الاجتماع الحديث.
لم يكن هذا الوضع مريحا ولا مقبولا لدى الفلاسفة وعند المشتغلين بحقل الدراسات الفلسفية، ويرون فيه مسلكا يعزز سطوة العلم ويزيح الفلسفة من مكانها السامي، دافعا بهم نحو تبني موقف الدفاع عن الفلسفة، وتأكيد الحاجة إليها، وإعادة الاعتبار لها، متعمدين إبراز نقاط تفوقها على العلم. وليس بعيدا أن تتصل مقولة هايدغر بهذا السياق إما قصدا أو توظيفا.
ثانيا: جاءت مقولة هايدغر بقصد أو من دون قصد وعززت وضعية الانقسام بين العلم والفلسفة، وعدت من نسق المقولات التي اصطفت إلى جانب الفلسفة في مقابل العلم. ووجد فيها أنصار العلم ما يشبه التمييز ضدهم، والاستنقاص منهم، وكأنهم ينتمون إلى حقل ليس من خاصيته التفكير في ذاته، وغير قادر على أن يتخذ من ذاته موضوعا له، معلنين رفضهم لهذا الموقف، ومعبرين عن استيائهم منه، ومتخالفين معه جملة وتفصيلا.
في المقابل كان في انطباع آخرين من أنصار الفلسفة، أن الفلسفة كانت بحاجة إلى هذا الموقف من هايدغر ومن غيره أيضا، لكي تحافظ على توازنها، وتثبت وجودها، وتحمي ذاتيتها، وتضمن ديمومتها، وتبرز فضائلها، أمام سطوة العلم، وقوة هيمنته، واكتساحه المشهد، وسعيه لإزاحة الفلسفة من مكانها السامي، ودمجها في حركة العلم، ونهيها عن مخالفته أو الخروج عليه.
في ظل هذه الوضعية واختلالها لصالح العلم، جاءت مقولة هايدغر دفاعا عن الفلسفة ودعما لها، ومعززة من جانب آخر وضعية الانقسام مع العلم.
ثالثا: مثَّل العلم في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث محركا قويا للتفكير الفلسفي، وفتح للفلسفة آفاقا جديدة ومدهشة ما كان بإمكانها أن تصل إليها بنفسها وعبر أدواتها، ووضعها أمام مسارات نهضت بها، وكشف لها عن حقائق ظلت ترتكز عليها، واتخذت منها دعامة لتثبيت وجودها، وحماية كيانها، وتقوية شوكتها.
وحين درس الباحث المغربي الدكتور سالم يفوت (1947 – 2013م) علاقة الفلسفة بالفكر العلمي، في مقالته المنشورة بكتاب: (الفلسفة العربية المعاصرة.. مواقف ودراسات) الصادر سنة 1988م، رأى أن الفلسفة في جانب منها هي صدى للأفكار العلمية المعاصرة لها، معتبرا أن إعادة تنظيم التفكير الفلسفي طوال تاريخ الفلسفة تمت باستلهام من إعادة التنظيم التي عرفها الفكر العلمي نفسه، متوصلا إلى أن الفلسفة لا تقوم إلا باتصالها بالعلم، فالفلسفة في نشأتها كما في تجددها وتنوعها تفترض أسبقية العلم، ولا وجود لها إلا بوجوده.
وتأكيدا لهذا الأمر نجد أن الفكر الأوروبي ظل يتطور تاريخيا متصلا بحركة العلم وفتوحاته، ففي القرن السادس عشر الميلادي ارتبط تطور الفكر الأوروبي بعالم الفلك البولندي كوبر نيكوس (1473 – 1543م) الذي قلبت نظريته حول مركزية الشمس مسارات العلم والفكر معا، وفي القرن السابع عشر ارتبط تطور الفكر الأوروبي بعالم الفلك والرياضيات الإيطالي غاليلو (1564 – 1642م) الذي عد مدشنا ميلاد العلم الحديث، وفي القرن الثامن عشر ارتبط تطور الفكر الأوروبي بعالم الفيزياء الإنجليزي إسحاق نيوتن (1642 – 1727م)، وفي القرن العشرين ارتبط تطور الفكر الأوروبي بعالم الفيزياء الألماني ألبرت أينشتاين (1879 – 1955م).
هذا من ناحية العلم، أما من ناحية الفلسفة، فإن تأثير العلم قد ظهر متجليا في أعظم الفلاسفة الأوروبيين لمعانا وتأثيرا في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث، ومن بين هؤلاء الفلاسفة يكفي الإشارة إلى نموذجين بارزين هما: الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 – 1650م) في القرن السابع عشر، والفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724 – 1804م) في القرن الثامن عشر. فديكارت الذي عده الأوروبيون أبو الفلسفة الأوروبية الحديثة، أقام فلسفته على أساس المزج بين الرياضيات والفلسفة، باعتباره كان رياضيا وفيلسوفا، بدأ رياضيا وانتهى فيلسوفا.
وأما كانت الذي عد واحدا من أعظم فلاسفة أوروبا في العصر الحديث، فقد شيد فلسفته مرتكزا على الفكر العلمي لنيوتن، ومن شدة هذه الصلة بينهما راجت عند الأوروبيين مقولة (لولا نيوتن لما وجد كانت)، ومن وجه آخر أراد كانت أن يحدث في الفلسفة ما أحدثه كوبر نيكوس في الفلك، من ثورة في الفلك إلى ثورة في الفلسفة.
والسؤال هل بعد كل هذا الأثر العظيم للعلم في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث، يصح القول إن العلم لا يفكر! وهو الذي أحدث أعظم تفكير في الفلسفة!
رابعا: لعل من المغالطة القول إن العلم لا يفكر، لأن ليس هناك علم لا يفكر، وما من علم إلا وهو حصيلة تفكير وباعث على تفكير، فالعلم يفكر وكل علم يفكر، وكما أن الفلسفة تفكر العلم أيضا يفكر، وإذا كانت الفلسفة تتفرد بفضيلة التفكير، فهذا لا يعني أن العلم وسائر العلوم ليس لهم شيء من فضيلة التفكير.
ليس المطلوب من العلم أن يفكر بنسق تفكير الفلسفة، وليس من المطلوب كذلك أن تفكر الفلسفة بنسق تفكير العلم. وهذا لا يعني الافتراق بينهما، وإنما تأكيد الحاجة لبعضهما، فالعلم بحاجة إلى الفلسفة تفكرا وتفكيرا، والفلسفة أيضا بحاجة إلى العلم تفكرا وتفكيرا. علما أن التفكير هو نظام علمي قائم على قواعد وأصول علمية ومنطقية، يعرف تارة بتسمية التفكير العلمي، وتارة بتسمية التفكير المنطقي، فالتفكير يقترن بالعلم كما يقترن بالفلسفة، وليس كما قال هايدغر الفلسفة تفكر والعلم لا يفكر!

زر الذهاب إلى الأعلى