أفق، لبنان، دورية شهرية، تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، 1 يوليو 2025م، العدد 166

كارل بوبر ناقدًا مدرسة فرانكفورت النقديّة

فتح المفكر المعروف كارل بوبر (1902 – 1994م) من طرف واحد، معركة نقديّة مبكّرة وحامية مع مدرسة فرانكفورت النقديّة، مركّزًا نقده على ثلاثة أشخاص يعدّون من الأعمدة البارزين في هذه المدرسة، وهم: ماكس هوركهيمر (1895 – 1973م) الذي اعتنى بدراسة الفلسفة الاجتماعيّة، وتيودور أدورنو (1903 – 1969م) الذي اعتنى بدراسة علم الجمال، ويورغن هابرماس (1929 – …) صاحب نظريّة الفعل التواصليّ.
هذه المعركة النقديّة، وثَّقها بوبر في مقالة له بعنوان (العقل أم الثورة؟)، وجدَّد نشرها في آخر مؤلَّفاته الذي أعدَّه وقَّدم له وصدر بعد وفاته بفترة وجيزة، وهو كتاب (أسطورة الإطار.. في دفاع عن العلم والعقلانيّة)، جامعًا فيه عددًا التي تدافع عن النقد العقلاني بوصفه منهجًا للتفكير وطريقة للحياة، وكاشفًا عن الاقتناع الذي ألهم كتاباته طوال ستين عامًا الماضية، مبيّنا أنّ المعرفة العلميّة على الرغم من تربّص الزّلل بها، هي أعظم إنجازات العقلانيّة الإنسانيّة.
تولّدت الإثارات النقديّة لدى بوبر تجاه مدرسة فرانكفورت وأعمدتها الثلاثة المذكورين، نتيجة ردود فعل على أثر نشر كتاب جماعيّ شارك فيه مع مفكّرين ألمان، صدر سنة 1969م بعنوان (الجدال الوضعيّ في علم الاجتماع الألمانيّ)، واصفًا العنوان بالمضلّل، ومظهرًا عدم رضاه عن مشاركته، معتبرا أنّها طُمرت في وسط الكتاب منبتّة الصلة بالبداية والنهاية، لا قارئ ولا ناقد يستطيع أن يُدرك أو يفهم لماذا ضمَّها الكتاب، متأسّفًا عليها فيما بعد، ومفصحًا أن المعارضين له لم يعرفوا كيف ينقدون أطروحاته السبع والعشرين التي ضمّنها مقالته المنشورة في الكتاب نقدًا عقلانيّا، مصوّرًا أنّ كلّ ما استطاع فعله هؤلاء المعارضون هو تصنيفه بوصفه وضعيًّا منتسبًا إلى تيّار الوضعيّة المنطقيّة، مخطئًا هذا الزعم، واصمًا له بالجهل التام.
سرد بوبر حكاية بدايات انخراطه في نقد مدرسة فرانكفورت، موضحًا أنّه سمع للمرّة الأولى عن هذه المدرسة إبّان ثلاثينيّات القرن العشرين، لكنّه وبناء على بعض القراءات التجريبيّة قرَّر آنذاك ألّا يطالع نتاجها الفكري. وفي سنة 1960م طُلب منه المشاركة في مؤتمر لعلماء الاجتماع الألمان، قَبِل الدعوة وأُخبر أنّ كلمته الافتتاحيّة سوف يُعقّب عليها تيودور أدورنو، فقاده هذا الأمر إلى محاولة أخرى لقراءة منشورات مدرسة فرانكفورت، وخصوصًا كُتب أدورنو، وبعدما رجع إليها كوَّن عنها تقويمًا نقديًا، مقسّمًا معظم أعمال أدورنو إلى ثلاث مجموعات، الأولى مقالاته في الآداب أو الثقافة، وقد وجدها بوبر بعيدة عن ذائقته، وبدت له بعد قراءتها أنّها تقليد رديء للكاتب كارل كراوس (1874 – 1936م)، ماقتًا هذا النوع من الكتابة التي يعرفها منذ أيامه في فيينا، ناظرًا إليها كنوع من الخيلاء الثقافيّة، تمارسها مجموعة من الناس تعتبر نفسها صفوة النخبة الثقافيّة.
المجموعة الثانية هي كُتب في الأبستمولوجيا أو الفلسفة، وبدت لبوبر أنّها تمامًا شيئا من ذلك النّوع الذي يُطلق عليه بالإنجليزية تخاريف وخزعبلات(mumbo- jumbo)، أو بالألمانيّة ألاعيب وهراء(Hokuspokus) ، مصوّرًا أن أدورنو كان هيجليًا وبالمثل ماركسيًا، وقد عدّ نفسه معارضًا لكلا الاتجاهين. وبالنسبة إلى فلسفة أدورنو، فإنه لا يستطيع الاتّفاق أو الاختلاف مع القطاع الأكبر منها، وعلى الرّغم من بذله جهدًا لفهمها، بدت له بأسرها أو في معظمها مجرّد حشد ألفاظ، لا شيء لديه البتّة ليقوله، وهذا اللا شيء يقوله بلغة هيجليّة.
المجموعة الثالثة هي المقالات المعبّرة عن شكاوى تجاه العصر الذي نعيشه، وقد وجد بوبر أنّ بعضها شائق ومثير للمشاعر، تعطي تعبيرًا مباشرًا عن مخاوف أدورنو وقلقه وحزنه العميق، وتحمل معها نبرة مأساويّة بائسة، وعلى قدر ما وجد بوبر تشاؤميّته فلسفيّة ووجد محتواها الفلسفي صفرًا.
وضمن هذا السياق النقديّ، اتّجه بوبر بنقده اللاذع إلى ماكس هوركهيمر، معتبرًا أنّ ما يسمّى نظريّة هوركهيمر النقديّة هي خواء وفراغ، خالية من المضمون، وما بقي دونها هو نزعة تاريخانيّة ماركسيّة ملتبسة، وتفتقر إلى الأصالة، وناظرًا له أنّه لم يقل شيئًا يمكن الدفاع عنه إلا وقيل من قبل بصورة أفضل، منتهيًا إلى أنّ آراءه غير ذات أهميّة من الناحية الموضوعيّة بما فيها الآراء التي وافقه عليها.
وأمّا بالنسبة إلى يورغن هابرماس، فقد وجد بوبر صعوبة في مناقشته تجاه أيّ مشكلة مهمّة، معتقدًا أنّه لا يعرف كيف يطرح الأمور ببساطة ووضوح وتواضع، وبصورة مؤثّرة، وبدا له أنّ معظم ما قاله يعدّ تافهًا، وما تبقّى بدا خاطئًا. ثمّ استطرد بوبر متوقفًا ومناقشًا ما عدَه بشكواه الرئيسة المدعاة تجاهه، بزعم هابرماس أن أسلوبه في التنظير ينتهك مبدأ الهويَة بين النظريَة والممارسة، مقدمًا ردًا على هذا الزعم، واصفًا له أنه غاية في البساطة، مقدّرًا أنّنا ينبغي الترحيب بأيّ اقتراح يعبّر عن كيفيّة حلّ محتمل لمشاكلنا، بصرف النّظر عن الشخص الذي تقدَّم به ومواقفه تجاه المجتمع، شريطة أن يكون قد تعلَّم كيف يعبّر عن نفسه بوضوح وبساطة، وبطريقة يمكن فهمها وتقييمها.
وختم بوبر تقويمه الكليّ مجملا له قائلا: “إنّني انظر إلى كتابات مدرسة فرانكفورت باعتبارها من قبيل أفيون العقول”.
أمام هذا الطّرح النقديّ اللاذع والمثير، وتقويمًا عامًا له، يمكن تسجيل النقاط الآتية:
أولًا: مثَّل هذا الطرح النقدي نمطًا من أنماط الخبرات الفكريّة والنقديّة لدى بوبر، متحددًا مادّة تجاه مدرسة فرانكفورت النقديّة، ومتطرقًا إلى ثلاثة من أعلامها البارزين، ويرتدّ هذا الطرح زمنًا إلى مطلع ستينيات القرن العشرين، وبقي لدى بوبر حاضرًا ولم يتغير أو يتبدل، محتفظًا بهذه الخبرة النقديّة إلى زمن صدور كتابه (أسطورة الإطار).
وتقويمًا لهذه الخبرة، أرى أنّها لا تعدّ من أجود الخبرات النقديّة لدى بوبر، بل لعلّها تندرج في نطاق خبراته المتدنّية درجةً، والضحلة على مستوى المعرفة. فقد ظهر بوبر في هذه الخبرة متعاليًا من الناحيتين النفسيّة والفكريّة، ولم يكن متواضعًا كما يفضل دائمًا، وكان هجوميًا ولاذعًا أكثر من اللازم، وقد غلبت عليه حالة من الانفعال، وتعامل وكأنّه في موقف ردّ الفعل أو استعادة الاعتبار لشخصه، وناظرا إلى طرفه الآخر من وجه أحادي، مركزًا على إطلاق الأحكام القدحيّة والتبسيطيّة والتعميميّة، متغافلًا عن أيّ فضيلة له، ومفارقًا لحالتيّ الهدوء والاتّزان اللتين يعرف بهما عادة من يركزون أنفسهم في ميادين نظريّة المعرفة، وفلسفة العلم، والمنهج العلمي، والتفكير العقلاني، وهي العناوين التي عُرف بها بوبر صاحب كتاب (منطق الكشف العلمي)، لذا فإنّ هذا النقد يرتدّ نقدًا على بوبر نفسه.
ثانيًا: دافع بوبر عن البساطة والتواضع والوضوح في تحليل المفاهيم، وتقديم الأفكار، وتكوين البراهين، وبيان النظريّات، ونقد الحجج، ناظرًا في هذه الجهة إلى العلوم والمعارف كافّة، الاجتماعيّة والإنسانيّة والطبيعيّة وغيرها، ناقدًا بشدّة طريقة التصعيب والتعقيد والتعسير واستعمال التعبيرات الغامضة والطنّانة، متفارقًا من هذه الناحية ومتفوّقًا على أولئك المفكرين الثلاثة الذين خصّهم بالنقد في مدرسة فرانكفورت وعلى آخرين كذلك، مشتهرًا بوصفه مفكرًا ميالًا إلى الوضوح، وناجحًا من هذه الناحية.
وتأكيدًا لطريقته، رأى بوبر أنّ مقياس الغموض يتصادم مع مقاييس الصدق والنقد العقلاني، فما لم يكن الأمر معروضًا بوضوح كاف لا يستطيع المرء تمييز الصدق من الكذب، ولا يستطيع تقويم الأفكار تقويمًا نقديًا، مقدرًا أنّ ما يوحي بالاسترسال في اللفظيّات المتحذلقة الطنّانة يعود في جانب منه إلى الرغبة في تقليد علماء الرياضيّات والفيزياء الرياضيّة في لغتهم الفنيّة العسيرة، متّخذًا من ألمانيا شاهدًا على اتّباع هذا التقليد، إذ تتمّ تنشئة العديد من العلماء الاجتماعيين كهيجليّين، نسبة إلى الفيلسوف هيجل صاحب التعقيد اللغوي، مبينًا أنّ هذا التقليد مدمر للعقل وللتفكير النقديّ.
ثالثًا: تعدّدت المواقف في ساحة الأوروبيين والغربيين ولدى غيرهم عمومًا، وتباينت الاتّجاهات في تقويم مدرسة فرانكفورت، وقد جرت حولها العديد من الدراسات والتحليلات الفكريّة والنقديّة، الأكاديميّة وغير الأكاديميّة، وظلّت هذه الدراسات والتحليلات تتواصل وتتراكم بلا توقف أو انقطاع، باعتبار أنّ هذه المدرسة جاءت وشكّلت حدثًا ثقافيًا ونقديًا مهمًا، بات يؤرَّخ له ليس في نطاق الفكر الألماني فحسب، وإنّما في نطاق تطوّر الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.
وما طرحه بوبر مثَّل أحد هذه المواقف النقديّة، متّجها نحو الانحياز القدحيّ والسلبيّ، ومتّسمًا في موقفه بالشدّة والقسوة، مقدمّا صورة سيّئة ومحبطة، لكنّه بالتأكيد لم يقدّم صورة تامّة عن هذه المدرسة النقديّة، ولا صورة متوازنة أو موضوعيّة، ولا حتّى صورة معرفيّة وعلميّة. ذلك لأنّه وضع نفسه في الموقع المغاير لهذه المدرسة التي يتفارق معها في تكويناته الفكريّة والروحيّة.
وهذا النمط من المواقف ليس جديدًا على بوبر، إذ سبق أن انزلق إليه في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه) الصادر سنة 1945م، وتنبّه بنفسه إلى ذلك، وأشار إليه في مقدّمة الطبعة الثانية من الكتاب، شارحًا تأثير الظروف عليه آنذاك، قائلًا: (لعلّ ذلك أن يفسّر لماذا جاءت نبرة الكتاب انفعاليّة وقاسية بدرجة ما كنت أحبّذها، غير أنّ الوقت لم يكن وقت تأنّق لفظيّ).
إلى جانب هذه الصورة المحبطة، ثمّة صورة أخرى مغايرة لها تمامًا، ترى أنّ انبثاق مدرسة فرانكفورت جاء من رحم الأزمات والمشكلات المعقّدة والخطيرة التي أصابت بنية المجتمع الأوروبي، وفتحت معها الحديث عن مصير الحضارة الأوروبيّة التي ولدت من داخلها حربان كونيّتان، عُدَّتا من أعنف الحروب وأشدّها فتكًا ودمارًا في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر.
وفي هذا النطاق، وجّهت مدرسة فرانكفورت النقد على قضايا مثل: المغالاة في النّزعة العلمويّة التي تُصوّر أنّ العلم هو مفتاح الحلّ لجميع المشكلات، وتحويل التقنيّة إلى أداة أيديولوجيّة لتنميط المجتمع والانتقاص من حريّته وإرادته، وتعظيم الفردانية والمبالغة فيها على حساب قيّم العدالة الاجتماعيّة، وتغليب العقل الأداتي المتَّجه نحو الأدوات والوسائل على العقل المعياري الذي يُعنى بالغايات والمقاصد، إلى جانب نقد الرأسماليّة الاحتكاريّة، وتسليط الضوء على ظهور الفاشيّة، إلى جانب الحديث عن قضايا أخرى تتَّصل بهذا النسق النقدي. ولا شك في أهميّة هذا المنحى النقدي الذي جاء من داخل الثقافة الأوروبيّة وليس من خارجها، ومثَّل تصويبّا لها وليس تحطيمًا.

زر الذهاب إلى الأعلى