الأخلاق وفكرة الحوار
إذا أردنا بيان العلاقة بين الأخلاق وفكرة الحوار، على شدة وضوح هذه العلاقة وقوتها، يمكن الكشف عن جوانب عدة تبرز مدخلية الأخلاق وتأثيرها في فكرة الحوار، ما قبل وما بعد. ما قبل تمهيدا من جهة أن الأخلاق تمهد لفكرة الحوار وتجسر طرق الوصول إليه، فمن دون الأخلاق لا تتهيأ أرضيات الحوار ولا تتعبد طريقا ونهجا.
وما بعد دواما، من جهة أن الأخلاق تكسب فكرة الحوار بقاء وديمومة، ومن دون الأخلاق ينقطع الحوار ويتوقف. ومن الصعب إن لم يكن من النادر، أن نجد حوارا اختياريا ثنائيا أو جمعيا حافظ على بقائه وديمومته من دون الأخلاق حضورا وتجليا، لأن بتأثير الأخلاق تتولد القناعة عند المتحاورين وتتأكد في بقاء الحوار ودوامه.
ومن جوانب العلاقة بين الأخلاق وفكرة الحوار، ما يتعلق بفكرة الحوار نفسها، بوصفها فكرة أخلاقية، تتقوَّم بالأخلاق بنية وتكوينا، وتجد في الأخلاق دافعا قويا إليها وجودا وبقاء. وتظهر في الحوار أخلاقيات المتحاورين وتنكشف قوة وضعفا، وعادة ما يراقب كل طرف في الحوار أخلاقيات الطرف الآخر، وغالبا ما يكون تأثير هذه الأخلاقيات أقوى من تأثير المعارف والأفكار، ولا قوة لتأثير المعارف والأفكار من دون مصاحبة الأخلاق.
وتبقى القاعدة دائما أن التعقل في الحوار يتغلب على التعصب، والحلم يتغلب على الغضب، والصدق يتغلب على الكذب، والهدوء يتغلب على الانفعال، والكلام اللين يتغلب على الكلام الخشن، والعفو يتغلب على الذم، والتواضع يتغلب على التكبر، والعدل يتغلب على الظلم، والاحترام يتغلب على التحقير، وهكذا في تقابل الأخلاقيات الأخرى التي تظهر في الحوار وتنكشف.
لذا فإن الحوار يقتضي من كل طرف أن يراقب أخلاقياته قبل مراقبة معارفه وأفكاره، ولا نفوذ لهذه المعارف والأفكار ولا تأثير من دون مصاحبة الأخلاق والتلون بها تجسدا، فبإمكان الأخلاق أن تفتح منافذ العقل لتنفذ إليها المعارف والأفكار، مهما كانت هذه المنافذ مغلقة، ومهما أحاطت بها الحجب، لأن تأثير الأخلاق يسبق تأثير الأفكار، والعلماء والمفكرون والأدباء غالبًا ما يؤثرون بأخلاقهم قبل أفكارهم.
من هنا يمكن القول إن الحوار إنما يتقدم وينجح بالأخلاق، ويتعثر من دونها ويفشل. وليس هناك حوار ناجح مع فشل في ناحية الأخلاق، لأن نجاح الحوار في اتصاله، وفشله في انقطاعه، وبالأخلاق يحافظ الحوار على اتصاله، وبهذا الاتصال يجني الحوار ثمراته، ويحقق مقاصده القريبة والبعيدة. ومن أراد حوارا ناجحا عليه أن يكون متقيدا بالأخلاق بصفة عامة، ومتحليا بما يعرف بأخلاقيات الحوار بصفة خاصة.
وما نريده من الحوار هو أن يصبح ظاهرة مشعة بالأخلاق، يفيض كل طرف من المتحاورين بأخلاقياته على الطرف الآخر، ويتحول الأخلاق إلى سلوك تبادلي بين المتحاورين. فلا يكفي تبادل المعارف والأفكار، وتناظر الرؤى والآراء، بل لا بد كذلك من تبادل الأخلاقيات، بحيث يأخذ كل طرف من أخلاقيات الطرف الآخر، ويخرج كل طرف من الحوار مدركا ارتفاع رصيده الأخلاقي، ومعززا من أخلاقياته الحوارية.
ومن جوانب العلاقة بين الأخلاق وفكرة الحوار، اعتبار أن هذه الفكرة هي في جوهرها وصميمها فكرة تواصلية قائمة على أساس العبور من الذات والوصول إلى الآخر، لكون أن الحوار يجري بين طرفين لهما حس التعقل بالحوار، وليس بين طرفين يدرك أحدهما هذا الحس، ولا يدرك الآخر هذا الحس ويتعقله، وإذا حدثت هذه الحالة يظهر الحوار في هيئة ناقصة لا يصدق عليه وصف الحوار الناضج، وإنما تصدق عليه هيئات أخرى قد تتشبه بالحوار ولا تنتسب إليه.
هذا الحوار التواصلي يقتضي القيام بجهدين متعاضدين، جهد يستدعي العبور من الذات، وجهد آخر يستدعي الوصول إلى الآخر، فمن دون العبور من الذات لا يمكن الوصول إلى الآخر، كما لا يمكن القيام بجهد العبور من الذات لتحقيق الحوار من دون القيام بجهد الوصول إلى الآخر.
ندرك هذا الأمر ونلمسه حين نرى أن البعض قد يرفض الحوار أو لا يتقبله لأنه غير قادر على العبور من الذات، إما عنادا، وإما تعاليا، هذا في جانب الذات. وفي جانب الآخر قد نرى البعض يتقبل الحوار ولا يرفضه ويكون قادرا على العبور من الذات، لكنه غير قادر للوصول إلى الآخر إما عنادا أيضا، وإما تعاليا، وإما لأنه لا يمتلك هذه المهارة.
وفي كلتا هاتين الحالتين ندرك الحاجة إلى الأخلاق، فالعبور من الذات بحاجة إلى الأخلاق، تخلصا من العناد تارة، ومن التعالي تارة أخرى. وهكذا في الوصول إلى الآخر نكون بحاجة إلى الأخلاق تخلصا كذلك من العناد تارة، ومن التعالي تارة أخرى.
كما نعني بالتواصلية في فكرة الحوار إعطاء الحوار صفة الديمومة لكي يكون مستمرا لا ينقطع أو يتوقف، ولا يتقيد بظرف، ولا يتحدد بأجل، وذلك لأن الحاجة إلى الحوار في الأمم والمجتمعات كافة هي حاجة فعلية لا تتوقف أو تنتهي مهما تباينت هذه الأمم والمجتمعات وتفارقت في مستويات المدنية والحضارة. ولن تصل هذه الأمم والمجتمعات في وقت من الأوقات إلى الشعور بالاستغناء عن الحوار أو عدم الحاجة إليه، أو الاكتفاء منه، أو استبداله بطرق ووسائل أخرى.
ولن تكون هذه التواصلية فعالة إلا إذا تدعمت بالأخلاق، استنادا إلى قاعدة أن كل تواصل بحاجة إلى الأخلاق، وليس هناك تواصل فعلي وفعال بلا أخلاق يرتكز عليها، ويستند إليها، ويتقوَّم بها، ولا يتخلى عنها.
وتحضر في هذا النطاق، الخبرة المعرفية الجادة التي قدمها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي ربط التواصل بالأخلاق، مبينا هذه القضية وشارحا لها في كتابه الذي تجلى بعنوانه: (الأخلاق والتواصل) الصادر سنة 1983م، متمما به كتابه: (نظرية الفعل التواصلي) الصادر سنة 1981م، مدعما بهذين الكتابين نظريته التواصلية المعروفة بالعقلانية التواصلية.
ومن جوانب العلاقة كذلك بين الأخلاق وفكرة الحوار، ما يتعلق بضرورة تحويل الحوار إلى حالة اجتماعية عامة، يتنادى إليها المجتمع، ويعرف بها، سعيا منه للاتسام بصفتها، والتسمي باسمها، ليكون مندرجا في نطاق ما يعرف بالمجتمع الحواري الذي يتخذ من الحوار نهجا يأنس به، وسلوكا يركن إليه، وطريقا لا يقبل بديلا عنه، مدركا أهمية الحوار، ومقدرا قيمته، ومستحسنا فضائله.
تتأكد هذه الضرورة، لكون أن الحاجة إلى فكرة الحوار هي حاجة اجتماعية عامة، تتصل بكل مكونات المجتمع، تشمل من جهة المؤسسات الاجتماعية كافة، ابتداء من مؤسسة الأسرة، مرورا بباقي المؤسسات الأخرى، مثل مؤسسة المدرسة والمعهد والجامعة، ومؤسسات العمل إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني الأخرى على اختلاف تنوعاتها. وتشمل من جهة أخرى الفئات الاجتماعية كافة، منها الفئات العمرية، ابتداء من فئة الأطفال، مرورا بباقي الفئات الأخرى مثل: الشباب وكبار السن.. وغيرهما. ومنها الفئات المهنية مثل: العمال والفلاحين والأطباء والمهندسين والمحامين.. وغيرهم.
هذه الفكرة الحوارية بهذا المعنى الاجتماعي العام لا يمكن تحريكها في المجتمع وتثبيتها إلا بمساندة قوية من الأخلاق، حالها كحال جميع الأفكار الأخرى التي يتوقف تحريكها في المجتمع على مساندة الأخلاق. فبالأخلاق تظهر جمالية الأفكار، وبهذه الجمالية الأخلاقية يقترب الناس من الأفكار ويتعلقون بها، كما يتعلقون بكل الأشياء الأخرى التي يحبونها.
ونحن في هذا الجانب، نحتاج أولا إلى تحويل فكرة الحوار لتكون فكرة اجتماعية حاضرة في المجال التداولي عند عموم الناس، ونحتاج ثانيا إلى تحويل فكرة الحوار لتكون فكرة أخلاقية لها صفة الجمالية عند عموم الناس. ولا يمكن الفصل بين هذين الأمرين، فلا يمكن تحويل الحوار إلى فكرة اجتماعية إلا إذا حولنا الحوار إلى فكرة أخلاقية. وبهذا تتكشف لنا بعض جوانب العلاقة بين الأخلاق وفكرة الحوار.