المجلة العربية، شهرية ثقافية، رجب 1443هـ/ فبراير 2022م، العدد 545

الشخصانية والذاتية.. بين الحبابي وإقبال

اختار المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي (1923 – 1993م) مفهوم الشخصانية معبرًا به عن فلسفته، مفاضلا بهذا المفهوم على مفهوم الذاتية، مشتهرًا في الأدبيات العربية بفيلسوف الشخصانية. واختار المفكر الباكستاني محمد إقبال (1294 – 1357هـ/1877 – 1938م) مفهوم الذاتية معبرًا به عن فلسفته، مفاضلا بهذا المفهوم على مفهوم الشخصانية، مشتهرًا في الأدبيات العربية بفيلسوف الذاتية.


وبهذا نكون أمام فلسفتين متفاضلتين على بعضهما مبنى، ومتجاورتين معنى، ومتباعدتين مكانًا، ومتصلتين موضوعًا. لكل واحدة منهما حكمتها ودلائلها وإشاراتها الإنسانية والأخلاقية والفكرية، تتيح لنا إمكانية الجمع بينهما والمقارنة والمقاربة تحريًا عن الجوامع والفوارق.


هذه المفاضلة أبان عنها الحبابي في كتابه: (الشخصانية الإسلامية) مقدرًا أن كلمة “شخصانية” أقرب إلى الصواب من الذاتية، معللا ذلك في كون أن لفظ “شخص” ينحصر في الدلالة على الإنسان، في حين أن كلمة “ذات” يشترك فيها الإنسان والحيوان بل وحتى الأشياء، فيقال: الرجل ذاته، والحصان ذاته، والورقة ذاتها، ناقلا موافقة زميله محمد بن تاويت أستاذ الأدب الأندلسي واللغة الفارسية بجامعة محمد الخامس المغربية على هذا الاختيار والتفضيل، ومستندًا إليه، ومتوثقًا به. فقد استحسن بن تاويت اختيار الحبابي ممتدحًا المدلول العلمي لمفهوم الشخصانية.


وأبان إقبال عن اختياره ومفاضلته في كتابه: (الأسرار والرموز)، متحدثًا عن فلسفته مطلقًا عليها تسمية بالأردية هي “خودي”، قاصدًا بها الذاتية، موضحًا أنه اختار هذه الكلمة بصعوبة بالغة وبعد جهد شديد، مقدرًا أن الكلمات الأخرى لا تخلو من المثالب ونواحي النقص، مثل كلمات: “أنا وشخص ونفس”، طالبًا كلمة لمعنى الذات لا لون لها. ومن بين هذه الكلمات، وجد إقبال أن كلمة “خودي” هي الأنسب من غيرها، كونها تستعمل بمعنى محايد للتعبير عن الشعور بالأنا الذي يكون القاعدة للوحدة لدى كل فرد.


استعمل إقبال هذه الكلمة “خودي” ويعني بها من الناحية الأخلاقية الاعتماد على الذات واحترامها والثقة فيها والحفاظ عليها، وتأكيدها عندما يكون ذلك لمصالح الحياة تمسكًا بقضية الحق والعدالة والواجب. ومثل هذا السلوك الأخلاقي يساعد في نظر إقبال في دمج قوى الذات، ويضفي عليها صلابة في مقابل قوى الانحلال والتفكك، وتحمل الذات من الناحية العملية حقين رئيسين هما: الحق في الحياة، والحق في الحرية كما تحددهما الشريعة الإلهية.


تشترك هاتان الفلسفتان في ناحية الموضوع متمثلا في النظر إلى الإنسان وأزمته عربيًا وإسلاميًا وثالثيًا نسبة إلى العالم الثالث، وتفترقان في ناحية الباعث عليهما ما بين باعث خارجي عند الحبابي، وباعث داخلي عند إقبال. فالحبابي التفت لهذه القضية بعدما عايش تجربة الاستعمار الفرنسي متسلطًا على مجتمعه وموطنه المغرب، متعرضًا للاعتقال والنفي بسبب انخراطه في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار، متنبهًا لدور الاستعمار في تحطيم شخصية الإنسان المستعمَر وتحقيره، وتحويله إلى كيان لا شخصانية له، منكرين عليه إنسانيته، متعاملين معه بصفته شيئًا من الأشياء المستعملة، لا بصفته شخصًا من الأشخاص لهم الاحترام والاعتبار.


وجاءت فكرة الشخصانية رفضًا لهذه المعاملة السيّئة، ومجابهة لهذا الفعل القبيح، وسعيًا لرد الاعتبار لإنسانية الإنسان، وتقوية الشعور بكرامته، فالمرء في نظر الحبابي إنما يصير إنسانًا إذا استطاع أن يستعمل شخصه استعمالا يليق بكرامة عالم الأشخاص.


أما إقبال فقد التفت إلى هذه القضية من باعث آخر، منطلقًا بشكل أساسي من واقع بيئته الدينية والاجتماعية المعروفة بتشبعها بالتصوف تدينًا وتقليدًا، معايشًا هذه النزعة ومتلمسًا لها منذ وقت مبكر، ومتأثرًا بها في داخل أسرته، فوالده كان متصوفًا ويتردّد كثيرًا على مجالس الصوفية.


وظهرت مع هذه النزعة وتكرست مفاهيم: الفناء والنفي والسُكر والزهد والرهبنة، وجاءت فكرة الذاتية من إقبال نقدًا لهذه المفاهيم، ومجابهة لهذه السلوكيات وتعديلا لها، معتبرًا أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها، وإن كماله على قدر إثبات ذاته وتمكين استقلاله، متخذًا من الذات العليا المثل الأعلى التي يطمح كل فرد إلى التخلق بأخلاقها، وتنقص ذاته على قدر بعده من الخالق.


من جانب آخر، افترقت هاتان الفلسفتان في الناحية الأدبية واللسانية، فالحبابي اتخذ من النثر جنسًا للكتابة، ومن البحث الفكري والمنهجي طريقة للبيان، ومن الفرنسية لسانًا ولغة، تصدق هذه العلامات على كتابه: (من الكائن إلى الشخص)، الذي مثَّل الإعلان الأول عن فلسفته، وجاء ملتزمًا بضوابط البحث الفكري والمنهجي كونه في الأصل أطروحة للدكتوراه أعدَّها الحبابي باللغة الفرنسية سنة 1949م، حين كان في فرنسا هاربًا.


وبهذا اللحاظ اللغوي تفادى الدكتور محمد عابد الجابري (1935 – 2010م) تلميذ الحبابي وصديقه، التطرق في كتابه: “الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية” الصادر سنة 1982م، إلى فكرة الشخصانية عند حديثه عن الخطاب الفلسفي في الفكر العربي المعاصر، بذريعة أنها كُتبت أصلا بلغة أجنبية هي الفرنسية، ومن ثم فهي لا تنتمي في نظره إلى الخطاب العربي المعاصر. وقد خالفه في هذا الرأي الباحث المغربي الدكتور سالم يفوت (1947 – 2013م)، الذي وجد نفسه معنيًا لإزالة هذا الالتباس، دفاعًا عن الحبابي وفلسفته.


أما إقبال فقد عبَّر عن فلسفته من خلال الشعر، متخذًا من الفارسية لسانًا ولغة، شارحًا لها في مقدمتين دوّنهما لاثنين من أولى دواوينه الشعرية، هما: (أسرار خودي) المنشور بالفارسية سنة 1915م، ويعني أسرار الذات، و(رموز بي خودي) المنشور بالفارسية كذلك سنة 1918م، ويعني رموز نفي الذات.


في الديوان الأول شرح إقبال هذه الفلسفة من جهة إثبات الذات، وفي الديوان الثاني شرحها من جهة نفي الذات أو اللاذاتية. وفي وقت لاحق نقل الأديب المصري الدكتور عبدالوهاب عزام (1894 – 1959م) هذين الديوانين إلى العربية، وجمعهما في ديوان واحد صدر في القاهرة سنة 1956م، بعنوان: (الأسرار والرموز).


وضمن هذا السياق التجاوري بين هاتين الفلسفتين، هناك من عدهما أنهما قد تأثرتا بالفكر الغربي، وظهرت عليهما بصماته، وحضرت فيهما أشخاصه، ومن ثم لا يمكن عدَّهما في عداد الفلسفات المستقلة المتحررة كليًا من الفكر الغربي نصًا وشخصًا وتاريخًا. فهناك من يرى أن شخصانية الحبابي إنما هي استعادة عربية لفكرة الشخصانية عند المفكر الفرنسي إيمانويل مونييه (1905 – 1950م) الذي اشتهر بهذه الفلسفة، ونظَّر لها في ثلاثة مؤلفات هي: (الثورة الشخصانية والجماعية) صدر سنة 1935م، و(ماهية الشخصانية) صدر سنة 1947م، و(الشخصانية) صدر سنة 1949م.


هذه العلاقة وما تضمنت من تأثر واقتباس لا يمكن نفيها أو التنكر لها، لكن الخلاف يتحدد حول الحدود ودرجة التطابق، فهل شخصانية الحبابي هي مجرد استعادة وترديد لشخصانية مونييه؟ أم هي تأخذ منها وتتفارق عنها ولا تتطابق معها ولها أفقها الذاتي والموضوعي المتمايز والمختلف؟


المدافعون عن الحبابي لهم وجهة نظرهم المتغايرة عن غيرهم، ومنهم سالم يفوت الذي يرى أن تشابه فلسفة الحبابي وبعض الفلسفات التي انتشرت في فرنسا بعد الحرب الثانية خصوصًا فلسفة مونييه، لا يسمح لنا بربطها ربطًا آليا، واعتبارها استمرارًا وامتدادًا لها، مقدرًا أن الشخصانية الواقعية لدى الحبابي ردَّدت أحيانًا أفكارًا شخصانية جاهزة لمونييه، إلا أن ذلك لا يعني في نظره أنه ينقلها حرفيًا، لأنه كان في جو مغاير للجو الذي نشأت فيه، وقرئت من طرف الحبابي انطلاقًا من اهتمامات ومشاغل مختلفة، يصدق عليها عيون مثقف مغربي عاش تجربة الاستعمار.


يضاف إلى ذلك أن هذا التأثر لعله ظهر واضحًا في حديث الحبابي عن الشخصانية الواقعية، وتحديدًا في كتابه: (من الكائن إلى الشخص)، الذي أعده مبكرًا في فرنسا. وتراجع هذا التأثر أو تلاشى في كتابه: (الشخصانية الإسلامية) الذي أراد منه الحبابي تعريف الشخص وتحديد أحواله ووضعيته بالاعتماد على المصادر الإسلامية الأولى والأساسية، مقتصرًا على الكتاب والسنة، متناولا بالدرس الإسلام قبل احتكاكه بالثقافات اليونانية والفارسية والهندية، وقبل تفاعله مع الثقافات اليهودية والمسيحية، ساعيًا لإبراز العناصر المكوّنة لشخصانية إسلامية أصلية.


وبشأن إقبال وتأثر فلسفته الذاتية بالفكر الغربي، فقد شاع عنه هذا الأمر، وأشار إليه بوضوح الدكتور محمد البهي (1905 – 1982م) في كتابه: (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) الصادر سنة 1957م، ناسبًا الرأي إلى غيره، قائلا: قد يقال إن إقبالا (قرأ لهيجل وتأثر برأيه في أنا، وقرأ لنيتشه ومال إلى مذهبه في السوبرمان رمز القوة والاعتداد بها فنادى بالفردية، وقوَّم الإنسان كفرد، وجعله وحدة الحياة الإنسانية، وأصل الجماعة وخالقها. ثم قرأ لفيشته ما يراه في التاريخ البشري من أن عظماء الأفراد هم الذين يكونون التاريخ وليست أحداث الحياة، فقال بما يقول فيشته في تاريخ الجماعة ودور الفرد في تكوين هذا التاريخ).


والمدافعون عن إقبال لا ينفون كذلك تأثره أو استفادته من الفكر الغربي، لكنهم لا يعدون فلسفته وأفكاره مجرد ترديد للفكر الغربي. كما أن إقبالا ينفي عن نفسه هذا التأثر، معتبرًا أن القرآن الكريم هو الأصل والأساس في تكوين فلسفته، مستعينًا به في تصحيح مسلكه الفكري والروحي، شارحًا رأيه قائلا: (إني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التصوف، وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإنَّ هذه الفلسفة في جملتها تنزع إلى وحدة الوجود، ولكن تدبُّر القرآن المجيد، ومطالعة تاريخ الإسلام بإمعان عرفاني غلطي، وبالقرآن عَدلت عن أفكاري الأولى، وجاهدت ميلي الفطري وحدت عن طريقة آبائي).


هذا من ناحية التحليل، أمّا من ناحية التقويم، فلسنا بحاجة إلى وضع هاتين الفلسفتين الشخصانية والذاتية لا في دائرة التقابل بينهما، ولا في دائرة التفاضل، ولسنا معنيين كذلك لا في الاختيار لإحداهما ولا في الانحياز، وإنما نحن بحاجة إلى هاتين الفلسفتين معًا، تغليبا للموقف التعددي في مقابل الموقف الأحادي، فكل واحدة منهما لها حكمتها وخبرتها وأفقها.


وعلى ضوء هذه الموازنة التعادلية، يمكن القول إن الحبابي ركّز خبرته على مفهوم الشخصانية محققًا نجاحًا في علاقته مع هذا المفهوم، مستكشفًا لنا حكمته، ومستظهرًا حقله الدلالي، ومثبتًا وجوده، ومؤرخًا له في ساحة الفكر العربي والإسلامي. كما أن إقبالا ركّز كذلك خبرته على مفهوم الذاتية، محققًا نجاحًا في علاقته مع هذا المفهوم، مستكشفًا لنا حكمته، ومستظهرًا حقله الدلالي، ومثبتًا وجوده، ومؤرخًا له في ساحة الفكر العربي والإسلامي.


بهذه الطريقة نحفظ بقاء الفلسفتين معًا، متجاورتين تارة ومتجادلتين تارة أخرى، بشكل يُثري المعرفة، ويُنشط الفكر، بخلاف الأحادية التي قد تعطل قدرة الجدل، وتشيع حالة السكون, فكل واحدة من هاتين الفلسفتين تضيف إلى الأخرى حكمة وخبرة وأفقًا، وتزداد بها غنى، وتشع بها نورًا.


إلى جانب هذا الحس الإيجابي، لا ينبغي الجمود على هاتين الفلسفتين والإكتفاء بهما أو الانحصار عليهما، بل لا بد أن يتحفز الفكر نحو إبداع فلسفات جديدة تواكب مشكلات الإنسان في عصر الرقميات الفائقة والتقنيات المذهلة، وفي ظل ثورة المعلومات وتعاظم تأثير شبكات التواصل الاجتماعي. في ظل هذه الوضعيات المتغيرة والمتعاظمة والمتسارعة تتأكد من جهة الحاجة إلى الفلسفتين السابقتين، وتتأكد من جهة أخرى الحاجة إلى فلسفات جديدة تعيد إلى الإنسان توازنه الفكري والروحي، وترشد تواصله، وتحقق ذاتيته.

زر الذهاب إلى الأعلى