المجلة العربية، شهرية ثقافية، ذوالحجة 1443هـ/ يوليو 2022م، العدد 550

الغزالي والتشبه بالفلاسفة الأوروبيين المحدثين

يعد أبو حامد الغزالي (450 – 505هـ/ 1058 – 1111م) أحد أكثر علماء المسلمين القدماء تشبهًا وتشبيهًا في بعض آرائه وأفكاره بالفلاسفة الأوروبيين المحدثين الكبار. وقد ظلت تجربته الفكرية على قدمها البعيد موضع إثارة ودهشة بالنسبة إلى العديد من الدارسين والباحثين في المجالين العربي والإسلامي، وعند بعض الأوروبيين والآسيويين المهتمين بدراسة تاريخ تطور الفكر والفلسفة في العالمين العربي والإسلامي، ناظرين إلى تجربته بوصفها تجربة مهمة في عصرها، ومؤثرة في عصرنا.
وفي هذا النطاق جرت العديد من المقاربات والمقارنات والموازنات الفكرية والفلسفية بين الغزالي وبعض الفلاسفة الأوروبيين المحدثين، كشفت عنها بعض المقالات والمؤلفات والأطروحات الجادة والمهمة والممتدة، جاءت بطريقة وضعت العزالي وتجربته الفكرية في دائرة الانتباه والتذكر.
وبيانًا لهذا الجانب من المقاربات والموازنات وتوثيقًا له، نشير لبعض الآراء الدالة عليه، والملاحظ أنها جاءت بصورة رئيسة من كتاب وباحثين مصريين، أزهريين وغير أزهريين، وردت هذه الآراء بعضها في تأليفات فكرية وفلسفية، وبعضها في أطروحات جامعية نوقشت في داخل مصر وفي خارجها بين فرنسا وألمانيا، نعرض لبعض منها بشكل متعاقب من الناحية الزمنية.
لعل من أسبق هذه الآراء وأوسعها بيانًا، وأشدها لفتًا للانتباه، وأكثرها استغراقًا في التشبه والتشبيه، ما دوَّنه الدكتور زكي مبارك (1892 – 1952م) في رسالته للدكتوراه التي ناقشها في الجامعة المصرية سنة 1924م، بعنوان: (الأخلاق عند الغزالي)، مخصصًا فيها بابًا بعنوان: (في الموازنة بين الغزالي وبين الفلاسفة المحدثين)، افتتحه قائلا: (هذا باب إذا أطلته طال، لأن لآراء الغزالي أشباهًا كثيرة في الفلسفة الحديثة، وتحملني الرغبة في الإيجاز على الاكتفاء بأهم وجوه المقابلة بينه وبين الفلاسفة المحدثين، وحسبي أن أدل القارئ على كيفية السير في هذا الطريق).
ابتدأ زكي مبارك هذا الباب متحدثًا عن الفيلسوف الفرنسي ديكارت، معتبرًا أنه أقرب الفلاسفة شبهًا بالغزالي، لأنه ارتاب كما ارتاب الغزالي، وبقي في شكه وارتيابه زمنًا غير قليل، معقبًا بعده بالحديث عن عدد من المفكرين والفلاسفة فرنسيين وإنجليزيين وهولندي واحد، وصل تعدادهم إلى سبعة، مرتبًا لهم بهذا النحو: (باسكال، هوبز، بوتلير، كارليل، اسبينوزا، جسندي، مالبرانش).
ومن هذه الآراء ما ذكره الكاتب المصري محمد لطفي جمعة (1304 – 1373هـ/ 1886 – 1953م) في كتابه: (ابن رشد تاريخه وفلسفته)، متحدثًا عن الغزالي واصفًا له أنه صاحب عقل قوي وفكر خارق ونفس مشتعلة، مقدرًا أنه سبق الفيلسوف الألماني كانت في القول باستحاله وصول العقل إلى الحقيقة، وسبق أيضًا الفيلسوف الإنجليزي هيوم في إنكار قدرة العلم، وبذلك يكون الغزالي في نظره قد سبق حكيمين من أكبر حكماء أوروبا الحديثة، وهما: هيوم وكانت.
وضمن هذا السياق أيضًا، جاء رأي العالم الأزهري الدكتور محمد يوسف موسى (1317 – 1383هـ/ 1899 – 1963م) الذي أشار إليه في خاتمة رسالته للدكتوراه التي ناقشها في جامعة السوربون الفرنسية سنة 1948م، وكانت بعنوان: (الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط)، نال عليها أعلى درجة علمية تمنحها جامعة السوربون، وهي درجة مشرف جدًا.
في خاتمة هذه الرسالة رأى الدكتور موسى أن هناك تشابهًا إلى حد كثير أو قليل بين بعض آراء مفكري الإسلام ومفكري الغرب، دالًا على ذلك بآراء شخصين هما: الغزالي وابن رشد، مقدرًا وجود تشابه بين آراء الغزالي من ناحية، وبين مالبرانش وهيوم وديكارت وكانت من ناحية أخرى حول مشكلة السببية.
وبعيدا عن الاستغراق في هذا الجانب البياني والتوثيقي، لا بد من الإشارة إلى رأي الدكتور محمود حمدي زقزوق (1933 – 2020م)، الذي قدم سنة 1968م رسالة دكتوراه باللغة الألمانية إلى جامعة ميونيخ، نشرها تاليًا بعنوان: (المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت)، معلنًا فيها أنه قد ثبت لديه بالنصوص القاطعة، التطابق الواضح بين الغزالي وديكارت في المنهج الفلسفي، متحددًا في الشك المنهجي.
وعندما صدرت هذه الرسالة في طبعة جديدة باللغة الألمانية سنة 1992م، أثارت انتباه الكاتب السويسري كريستوف فون فولتسجن، نشر على ضوئها مقالة في ديسمبر 1993م، بعنوان: (هل كان الغزالي ديكارتًا قبل ديكارت؟) رأى فيها أن كتاب زقزوق قد كشف عن حقيقة مفادها أن الشك المنهجي الذي يعد عملا تأسيسيًا حاسمًا في الفكر الغربي، مرتبط بالفلسفة الإسلامية في القرن الحادي عشر، أي قبل ديكارت بأكثر من خمسة قرون، مؤكدًا وجود تطابق أساسي في المنهج الفلسفي لكلا الفيلسوفين.
بهذا البيان والتوثيق نكون أمام ظاهرة فكرية تستحق النظر والتحليل فحصًا وتبصرًا، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى الملاحظات الآتية:
أولا: أن المدهش في هذه المقاربة أنها تركزت بين الغزالي وثلاثة من كبار الفلاسفة الأوروبيين، المتفارقين من جهة المكان، ومن جهة الزمان، ومن جهة المنهج، وهؤلاء هم: الأول رينيه ديكارت (1596 – 1650م) الذي ينتمي من جهة المكان إلى فرنسا، ومن جهة الزمان إلى القرن السابع عشر، ومن جهة المنهج منتسبًا إلى المنهج العقلاني. والثاني ديفيد هيوم (1711 – 1776م) الذي ينتمي من جهة المكان إلى إسكوتلندا البريطانية، ومن جهة الزمان إلى القرن الثامن عشر، ومن جهة المنهج منتسبًا إلى المنهج التجريبي، والثالث إيمانويل كانت (1724 – 1804م) الذي ينتمي من جهة المكان إلى ألمانيا، ومن جهة الزمان إلى القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ومن جهة المنهج منتسبًا إلى المنهج العقلاني النقدي.
ويعرف عن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة أنهم أحدثوا أهم الانعطافات الفكرية الفاصلة في تاريخ تطور الفكر الأوروبي الحديث، فديكارت انعطف بالفكر الأوروبي نحو المنهج العقلاني، وهيوم مع جون لوك انعطفا بالفكر الأوروبي نحو المنهج التجريبي، وكانت انعطف بالفكر الأوروبي نحو طريق ثالث يجمع بين المنهجين السابقين.
وجرت بين هؤلاء الفلاسفة ومن يمثلونهم أبرز المعارك الفكرية التي فارقت بين اتجاهات الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، فأصحاب المنهج العقلي خاضوا معاركهم الفكرية مع أصحاب المنهج التجريبي المتفارقين عنهم والناقدين لهم، وعلى ضوء هذا النزاع الفكري انبثق المنهج الكانتي متفارقًا عن المنهجين السابقين.
وبهذا اللحاظ تكون المقاربة مع الغزالي تلامس صميم الفكر الأوروبي، متوغلة إلى منطقة المركز الحيوي، وليست مجرد مقاربة عادية أو بسيطة تلامس منطقة الهامش في الفكر الأوروبي، أو تتصل بطرف من أطرافه الجزئية أو البعيدة. كما أن هذه المقاربة تلامس الجانب الأعلى في الفكر الأوروبي وليس الجانب الأدنى، وتتصل بالركن الصعب وليس الركن البسيط، بالشكل الذي يكسب الغزالي قوة، ويضفي على تجربته الفكرية حيوية.
ثانيا: هذه الظاهرة على أهميتها وحيويتها وأفقها البعيد لم تستكشف بالقدر الكافي، وما زالت بحاجة إلى مزيد من التدقيق والتحقيق المعرفي والتاريخي، البنيوي والتفكيكي، سعيًا لإخراجها من دائرة الشك إلى دائرة اليقين، ومن ناحية الغموض إلى ناحية الوضوح، ومن حيز التردد إلى حيز التثبت، ومن أفق الماضي إلى أفق الزمن الحديث.
والملاحظ أن هذه الظاهرة قد ظلت لفترة من الزمن تتحدد في مجرد إشارات تُقدم بصورة متفرقة ومفككة، ولا يتم الحديث عنها إلا بطريقة عابرة ومقتضبة، لا تبرز أهميتها، ولا تكشف حيويتها، ولا تؤكد وثاقتها، ولا تثبت حقيقتها، ولا تحفز على متابعتها.
والخطوة الأهم في هذا الشأن، جاءت من الدكتور محمود حمدي زقزوق الذي اعتنى بهذه الظاهرة على مستوى أطروحة الدكتوراه، ولعلها أول أطروحة عربية بهذا المستوى تختص بشكل كامل بدراسة هذه الظاهرة. وتأكدت أهمية هذه الخطوة حين تمت مناقشتها ليس في جامعة عربية وإنما في جامعة أوروبية، وليس تحت إشراف أكاديمي لشخص عربي أو مسلم أو من دول العالم الثالث، وإنما بإشراف أكاديمي لشخص ألماني اسمه راينهارد لاوت.
وقد ذكر زقزوق في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابه الصادرة سنة 1997م، أن المشرف الألماني لاوت تفاجأ حين رأى إثبات التطابق الواضح في المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، خصوصًا وأنه من أشد المعجبين بفلسفة ديكارت، ويعتبر أن الفلسفة الحقيقية بدأت معه، فكان من الصعب عليه معرفة أن الغزالي قد سبق ديكارت في اكتشاف الشك المنهجي واستخدامه، مع ذلك لم يعترض على شيء في الرسالة، سوى أنه طلب تحويل الرسالة إلى أحد الألمانيين المستشرقين لمراجعة النصوص المترجمة إلى الألمانية كونه لا يعرف العربية.
وهذا المستشرق هو أنطون اشبيتالر، وقد وصفه زقزوق أنه من كبار المستشرقين الألمان، وبعد مراجعة الرسالة لم يغير فيها حرفًا واحدًا، لكنه رفض فكرة أن يكون ديكارت قد تأثر بالغزالي، وعزا التشابه في المنهج بينهما إلى كونه مجرد توافق أو توارد خواطر، نافيًا أن تكون هناك معرفة لديكارت بأفكار الغزالي.
ثالثا: الملاحظ أن معظم الإشارات والتنبيهات بشأن هذه الظاهرة جاءت من كتاب وباحثين ينتمون إلى المجال العربي، وهم الذين أبرزوا هذه الظاهرة، وحاولوا لفت الانتباه إليها، وقد أحسنوا صنعًا بهذا الفعل. لكن هذا القدر لن يكون كافيًا لتأكيد هذه الظاهرة وتثبيتها، وجعلها تدرج ضمن نسق الظواهر الفكرية الجادة التي بإمكانها تسجيل الحضور والتداول في حقل الدراسات الاجتماعية والإنسانية العابر بين الثقافات والمجتمعات.
ولن تتحرك هذه الظاهرة من مكانها إلا إذا اقترب منها الطرف الآخر المعني بها متمثلا في الأوروبيين مفكرين ومؤرخين، لكون أن هذه الظاهرة يتقاسمها طرفان، طرف له علاقة بالمجال العربي والإسلامي الذي ينتمي إليه الغزالي فكرًا ومكانًا، وطرف له علاقة بالمجال الأوروبي الذي ينتمي إليه أولئك الفلاسفة المذكورون فكرًا ومكانًا، فلا يكفي أن تكون هذه الظاهرة بيّنة عند طرف وثابتة، وغامضة عند طرف آخر ومبهمة.
علما أن هذه القضية في صورتها العامة تتأثر بطبيعة اختلال التوازن الحضاري القائم بين هذين الطرفين تقدمًا وتراجعًا، فالطرف المصنف على حالة التراجع لن يكون في مقدوره غالبًا الإقناع بهذه الظاهرة وتثبيتها، وفرض وجودها في ساحة الفكر الإنساني العام. وأما الطرف المصنف على حالة التقدم فلن يكون غالبًا معنيًا بهذه الظاهرة التي لا تحسب عليه، ولا تنسب إليه، وإنما تحسب لصالح خصمه التاريخي الذي لا يراد الاعتراف له بفضل وتفوق تعاليًا وكبرياء.
رابعا: إذا كان الغزالي يظهر لنا بهذه الصورة إما شبيهًا أو متشبهًا، وإما مُسبقًا أو متقدمًا، وإما حاضرًا أو مؤثرًا في بعض آرائه مقارنة مع بعض كبار الفلاسفة الأوروبيين المحدثين، فهل يصح القول بعد ذلك إن الغزالي كان سببًا لخمود الفلسفة في الشرق كما يرى زكي مبارك في كتابه: (الأخلاق عند الغزالي)، أو أنه ضرب الفلسفة ضربة قاضية لم تقم لها بعده قائمة كما يرى محمد عابد الجابري (1936 – 2010م) في كتابه: (التراث والحداثة)، إلى جانب آخرين حاولوا تثبيت مقولة أن الغزالي كان سببًا في انهيار الفلسفة وتراجع الحركة العقلية في العالم الإسلامي، بعد القرن الثاني عشر الميلادي.
هذا الرأي الذي تسالم عليه بعض الكتاب والباحثين العرب المعاصرين لم يكن دقيقًا، وبحاجة إلى مراجعة وتحقيق، ولعله يكشف عن حالة من الضعف والقصور في دراسة وتحليل تاريخ تطور الفلسفة والفكر الفلسفي في العالم الإسلامي منذ القرن الخامس الهجري وما بعده.
ومثل هذه النتيجة قد توصل إليها المستشرق الهولندي دي بور في كتابه: (تاريخ الفلسفة في الإسلام) الصادر باللغة الألمانية سنة 1901م، مبينًا رأيه قائلا: (كثيرًا ما يقال إن الغزالي قضى على الفلسفة في الشرق قضاء مبرمًا، لم تقم لها بعده قائمة؛ ولكن هذا زعم خاطئ لا يدل على علم بالتاريخ، ولا على فهم لحقائق الأمور).
لهذه المفارقة المدهشة نرى أن الغزالي وتجربته الفكرية بحاجة إلى قراءة معرفية وتاريخية تتفارق عن القراءة السائدة في ساحة الكتاب والباحثين العرب المعاصرين.

زر الذهاب إلى الأعلى